سبتمبر 28، 2009
سبتمبر 26، 2009
تسجيل
اليوم وبلا أي مقدمات..
اتصل بي أبي وقال إنه راض عني.. كان يضحك من قلبه, ولا أعرف ما الذي دعاه لأن يقول هذا..
اليوم..
قرأت كلمات قالها سمير الفيل عن قصتي في موقع القصة العربية, كم أحترم هذ الرجل, وكان ما قاله على حد تعبير أحمد الشمسي كلاماً لم يقال في يحيى حقي نفسه.
اليوم..
عرفت بأنني قبلت في جامعة الإسكندرية لدراسة الماجستير.
اليوم..
قالت لي بنبونة إنني صديق “طيب”..
الليلة.. سأنام هادئاً سعيداً.
كتبها عمرو الساعة 2:29 م 14 تعليقات
المزيد من القوقزة العلمية
العقل مثل الإناء ينضح بما فيه. وعقلي هذه الأيام مشغول بالكثير من التفكير عن الإخفاقات السابقة. أرجو ألا يفهم هذا على أنه ميل اكتئابي لأنه ليس كذلك, وإنما هو محاولة لفهم الأسباب التي آلت بي إلى ما أنا فيه. سؤال واحد يشغل ذهني هذه الأيام:
ما الذي ينقصك كي تكون؟ ما الذي ينقصك كي تنجح نجاحاً باهراً.. كي ترتقي؟
فكرت للحظة ثم أدركت أن الإنسان عجينة من الموارد التي تختلط ببعضها. بعض هذه الموارد وراثي, والبعض الآخر مكتسب. بعضها مادي, والبعض الآخر نفسي معنوي. سأتناول اليوم بالتأمل أحد أهم الموارد التي تساعدنا على الوصول إلى النجاح, وهي القدرة العقلية العامة أو الذكاء.
لا أرى أن قدرتي العقلية العامة قليلة, فأنا دائماً ما أحرز ما يزيد على 120 درجة في اختبارات الذكاء بينما يحرز نصف البشر في العالم 100 درجة فقط. لكن هل يحتاج المرء إلى المزيد من الذكاء كي ينجح؟ هل لو كان لدى أينشتاين هذه الدرجة كان سيصبح أينشتاين (معدل ذكاء أينشتاين 180 درجة)؟ ولماذا لم يصبح واحد مثل كريستوفر لانجان رئيساً للولايات المتحدة (معدل ذكاء لانجان يقترب من المائتين)؟ لماذا ظل مغموراً إلى أن اكتشفته وسائل الإعلام؟ التفكير المبدئي يشير إلى دلائل مختلطة.
هناك ثلاثة أنواع من الذكاء طبقا لتقسيم سترنبيرج. الأول هو ما نطلق عليه القدرة العقلية العامة. وهو يقاس بالعديد من الاختبارات منها اختبار ستانفورد بينيه الأشهر في هذا الغرض. ويطلق على اختبار الذكاء من هذا النوع أيضاً اختبار القدرات الدراسية, لأنه مؤشر جيد على قدرة الفرد على التحصيل الدراسي, ولأن أسئلته تشبه إلى حد كبير مسائل الحساب.
النوع الثاني من الذكاء هو الذكاء العملي أو التطبيقي. ربما من الجائز لغرض هذه المقالة غير المتخصصة أن نطلق عليه الذكاء الاجتماعي. وهو قدرة الفرد على الحصول على ما يريد. قدرته على الوصول بالآخرين إلى النتيجة التي يريد. أما النوع الثالث فهو الذكاء الإبداعي, وهو قدرة الفرد على ابتداع شيء جديد لم يكن موجوداً من قبل.
الآن حلل نفسك معي. فكر ما الذي لديك من هذه الأنواع المختلفة من الذكاء. أنا لدي النوعين الأول والثالث بمقادير متفاوتة لكنها ترضيني. غير أنني اكتشفت اليوم أنني أفتقر كثيراً إلى النوع الثاني (التطبيقي). ربما تعاني أنت أيضاً من نفس المشكلة.
الكثير من المبدعين والعباقرة قتلوا بسبب عقولهم. قتلتهم اكتشافاتهم واختلافهم عن بقية البشر. لكن هذا لا يعزى فقط إلى الاختلاف بقدر ما يعزى أيضاً إلى عدم وجود قدر معقول من النوع الثاني من الذكاء لديهم. هناك أيضاً الكثير من الأذكياء يعيشون في العراء ولا يعرف بهم أحد. في كل مصلحة أو وزارة هناك من هم أزكى بمراحل من المدير أو الوزير, ومن هم أكثر كفاءة, لكن من ينجحون تكون لديهم خلطة معينة للوصول إلى النجاح, وتعتمد هذه الخلطة إلى حد بعيد على توافر النوع الثاني من الذكاء.
لكن إليك البشارة, فهذا النوع الثاني مكتسب. أي أنه ليس وراثياً. هذا ما قرأته اليوم في دراسة لعالمة في علم الاجتماع اسمها أنيت لارو. قامت أنيت بدراسة 12 دراسة حالة بين أطفال من أسر من مختلف الخلفيات الثقافية والمادية. ووجدت أن هناك نوعان من أساليب التربية هما المسئولان إلى حد كبير عن تنمية هذه المعرفة لدى الفرد. فالأسر الفقيرة يميل الطفل فيها إلى الخنوع وعدم الحديث في ظل وجود سلطة. أما الأسر الغنية فهي تميل إلى تشجيع أطفالها على التعبير عن أنفسهم, واقتناص ما يريدون.
النتائج التي توصلت إليها لارو لم تكن مدهشة لي, بل إنها لا تحتاج إلى دراسة. كنت قد عملت في مدرسة في قرية فقيرة لمدة يوم واحد بعدها تركت العمل. كان هذا أول يوم عمل لي. وعندما دخلت الفصل لم أر الجلبة المعتادة في فصولنا, وكان اندهاشي كبيراً. بعدها عملت في مدرسة خاصة. وفي المقابلة الشخصية قبل التعيين قال لي الموجه المقيم:
Amr.. our students are very naughty, how are you going to deal with them?h
Well, I prefer to call them hyper-active students...h -
وعندما دخلت إلى الفصل أدركت هذا الاختلاف بالفعل. فالأطفال في المدارس الخاصة لا يتركون المدرس يشرح الدرس دون تفاعل. بل يتوقفون عند كل نقطة ويشككون فيها, ويختبرون مدرسهم على الدوام. هم يعتبرون أن من حقهم أن يسألوا, وأن عمل المدرس أن يجيب. بينما يربى أولاد الفقراء على أن المدرس سلطة فوقية, إن أغضبتها فسوف نكسر رقبتك. (انت تكسر واحنا نجبس يا أستاذ)
هذان النمطان من التربية يؤديان إلى نوعين من الأشخاص الأول يعرف كيف يقنع الآخرين بنفسه, والثاني لا حاجة لنا بالحديث عنه.
كنت أتجول في الفضاء الأثيري حين اهتديت إلى موقع كتاب American Prometheus الذي يتحدث عن قصة حياة روبرت أوبنهايمر مخترع القنبلة النووية التي ألقيت في الحرب العالمية الثانية على اليابان. قاد الرجل مشروع إنتاج قنبلة غيرت مسار الحرب, وحولت مسار التاريخ البشري كله. لكن هل كان أوبنهايمر ذكياً؟ ما يقوله أصدقاؤه أنه كان لا يستطيع أن يدير كشك لبيع الهامبورجر.. فكيف سُمح له بقيادة مجموعة من المهندسين والعلماء؟ وكيف استطاع أن يصل بهم إلى مثل هذا النجاح (هو نجاح من وجهة النظر الأمريكية على الأقل)؟
كيف كانت سيرة أوبنهايمر الذاتية قبل أن يتولى هذا المنصب؟ كان طالباً مجداً حاول أن يقتل أستاذه بالسم, واستطاع بدهائه أن ينهي الموضوع كله بأن أحيل إلى الطبيب النفسي كي يتلقى جلسات للتخفيف عن أعصاب سيادته!! كما أنه كان صديقا لعدد كبير من الشيوعيين وهذا كفيل بألا يتولى هذا المنصب. كان عمره 32 سنة بما يعني أنه صغير للغاية على أن يدير مجموعة من العلماء كلهم أكبر منه سنا وعلما ومقاما وخبرة… لكن أوبنهايمر كان لديه شيء آخر ميزه… الكثير من الذكاء التطبيقي.
يقول الكاتبان كاي بيرد ومارتين شيروين أن أوبنهايمر عرف من أين تؤكل الكتف. أي أنه تعرف إلى الشخص المسئول عن تعيين قائد للمشروع ويدعى جروفز (لا أتذكر منصبه الآن), وأنه قال له الكلام الذي كان جروفز يريد أن يسمعه. ثم حين تولى منصبه دأب أوبنهايمر على العمل حتى نجح.
الكثير من الدراسات أشارت إلى أن المستوى المتوسط من القدرة العقلية العامة يستطيع أن يصل بصاحبه إلى مراتب راقية, وأن الزيادة في معدل الذكاء تفقد أثرها تدريجياً بعد هذا المتوسط, فلا فرق كبير في الأداء الواقعي الفعلي بين من يتمتع بذكاء قدره 180 ومن يتمتع بذكاء قدره 200 درجة.
أعود الآن بذهني إلى أيام المدرسة.. يبدو أنني كنت من الفئة الثانية التي لا تسأل ولا تستفسر كثيراً. الخبر السار كما قلت من قبل أن النوع الأول من الذكاء قدرة أما الثاني فهو معرفة, والمعرفة تكتسب. ارجع بذهنك أنت أيضاً هل لديك هذا النوع من المعرفة؟
سبتمبر 25، 2009
إن ما قدرتش تضحك
على الرغم من حبي المفرط للكلمات التي يغنيها وجيه عزيز إلا أنني لا أحب صوته مطلقاً.. ربما تتفقون معي أو تختلفون, لكنكم ستعجبون بالتأكيد بهذه الأغنية..
كتبها عمرو الساعة 12:21 ص 20 تعليقات
سبتمبر 23، 2009
1000 مبروك.. هل يعمل المبدع فقط من أجل إرضاء جمهوره؟
الأفكار والتوقعات المسبقة هي وحدها ما يظلم فيلم أحمد حلمي "1000 مبروك", فالمشاهد يصنف حلمي على أنه ممثل كوميدي, وهو حين يدخل فيلماً اسمه "1000 مبروك" يتخيل مسبقاً أنه داخل إلى فيلم كوميدي له نهاية سعيدة, وبالتالي حين يعرض الفيلم لا يأتي على هواه, ويخرج لاعناً اليوم الذي رأى فيه إعلان الفيلم, وقرر فيه أن يشاهده.
تميل صناعة السينما في بلادنا إلى مسايرة الموجة, فحين خرج هنيدي بفيلمه "اسماعيلية رايح جاي" ظهرت موجة الأفلام الشبابية التي تعتمد في الغالب على الضحك والفكاهة حتى لم يعد بالسينما فيلماً واحداً يناقش أي مشكلة بطريقة جادة. ولم يعد هناك أثر لأفلام الأكشن, أو العنف. لكن يبدو أن حكاية الأفلام الكوميدية هذه قد أصبحت موضة قديمة, فانطلقت الأفلام هذا الموسم إلى بيئة العشوائيات, وإلى الأكشن, وفرغت الساحة من الأفلام الكوميدية عدا فيلم طير انت لأحمد مكي, وفيلم الدكتاتور لحسن حسني (هذا بالطبع إذا اعتبرنا أن الدكتاتور فيلماً من الأساس).
لكن الفرق بين أحمد حلمي وغيره هو أن أحمد يصوغ واقعه السينمائي, فقد نضج إلى الدرجة التي تجعله قادراً على اتخاذ مسار مختلف ومغاير, وهو لديه الشجاعة لتحمل عواقب مثل هذه المخاطرة.
في ألف مبروك يستيقظ البطل كل يوم ليفعل ويرى ويسمع نفس الأشياء, وينتهي اليوم دائماً بموته في تمام الثانية عشرة صباحاً. الفكرة جيدة, يقول مؤلفا الفيلم خالد ومحمد دياب أنهما استوحياها من أسطورة سيزيف, وهي الأسطورة التي استوحي منها فيلم Ground Hug Day في إشارة إلى أنهما لم يستفيدا أي شيء من الفيلم الأمريكي وهذا فيه إجحاف كبير.
تتكرر داخل الفيلم جملة محورية تقول إنه من الممكن تغيير الواقع, لكن لا يمكن تغيير القدر, وبالتالي يعمل بطل الفيلم على فهم بيئته المحيطة, ليعرف تدريجياً أن أمه ليست مدمنة كما كان يعتقد وأن أباه ليس مختلساً وأن علاقة الحب التي تربط بين أخته وصديقه علاقة شريفة, ثم يجد أن حياة هؤلاء كلهم مليئة بالمشاكل فيقرر أن يغير الواقع ويستسلم في نهاية الفيلم إلى القدر فيموت.
تخيلوا معي أن المشاهد الذي دخل كي "يعلي الطاسة" وينسى الهم يفاجأ في نهاية الفيلم بموت البطل, وبحقيقة أن القدر لا يمكن تغييره, وبالجملة (التي أراها سخيفة) التربوية على لسان حلمي والتي تقول "أن تكون غائباً حاضراً.. أفضل من أن تكون حاضراً غائباً".. حين تفتح أنوار السينما يشعر هذا المشاهد أنه قد خدع. وهنا يطرح الموقف سؤالاً: هل على المبدع أن يعمل من أجل إرضاء جمهوره؟
أعتقد أنه يجب عليه أن يرضي جمهوره في حدود, فالبحث عن رضا الجمهور قد يعني أحياناً الاستسلام للموجة, ومسايرة الوضع القائم, وعدم التجديد.
لم يعجب الفيلم الجماهير على الرغم من الأرباح الكثيرة التي حققها, ولم يعجب أيضاً بعض النقاد الذين رأوا أن النهاية كانت متوقعة منذ بداية الفيلم, وأنها غير مبتكرة وغير مختلفة. لكنني أرى أن النهاية متفقة تماماً مع رسالة الفيلم, فالبطل لابد وأن يموت حتى تكتمل الرسالة. بل إن اتباع نفس النهج الذي قامت عليه النسخة الأمريكية من الفيلم (ولا أعني بذلك أنهما متطابقان) بإنهائه بنهاية سعيدة لا يموت فيها البطل يقضي على الأساس الفكري الذي بنيت عليه هذه التجربة.
حالة الإحباط التي تصيب الفرد بغد النهاية تجعله يفكر في اصطياد العيوب كي يجلس بين أصحابه أو يكتب عن الفيلم مقالاً نقدياً يقتص فيه لنفسه بعد شعوره بالخديعة.. يبحث الفرد عن الأسباب التي جعلته غير راض فيقول كلاماً قد يجانبه الصواب كثيراً. فيتحدث البعض عن أن الفيلم ممل في بدايته, أو أن الأحداث لم تكن على درجة عالية من الجذب, أو غير ذلك من أوجه الكلام الواهي الذي قد نختلف بصدده وبشكل كبير.
هناك أمران أتفق على أنهما عيوب أساسية في تجربة حلمي, الأول هو عدم وجود أي دور يذكر لخطيبة البطل في يوم زفافهما, هذا الدور كان سيضيف الكثير لآدمية الشخصية. الأمر الثاني هو عدم الإشارة بأي شكل من الأشكال للفيلم الأمريكي الذي فتح أعين المؤلفين على الفكرة, حتى وإن كانت مقتبسة من أسطورة سيزيف. والحقيقة أنني غير راض تماماً عن الجملة الأخيرة التي تأتي على لسان حلمي, فهي بغض النظر عن كونها مبتذلة ومستخدمة إلا أنها أيضاً تحجم معنى الفيلم بل وتوجهه إلى مسار مختلف. فهي تشير إلى أن الموت من أجل غاية أفضل من الحياة بدونها, ولا أرى أن الفيلم أشار لذلك تحديداً بقدر ما أشار إلى جدلية الواقع والقدر. فالبطل في الفيلم لم يقتل نفسه لأنه يريد أن يغير الواقع.. هو لم يمت من أجل غاية, وإنما مات لأنه عرف أن قدره الموت, وهو في الطريق نحو تلك النهاية القدرية قرر أن يترك بصمته في الحياة.
بغض النظر عن كل هذا, فانا أرى أن حلمي على الطريق, وأنتظر منه المزيد. الفيلم جيد, وعليكم أيضاً أن تشاهدوه تشجيعاً لفن صادق استنزف الكثير من المجهود من القائمين عليه.
كتبها عمرو الساعة 5:36 ص 30 تعليقات
سبتمبر 18، 2009
هالة من نور
تعريفات لابد منها:
ياسمين: قطعة طرية من اللحم استيقظت ذات صباح فوجدتها تنام في المسافة الفاصلة بيني وبين زوجتي. ثم حين كبرت أصبحت ذلك العسكري الصغير الذي يضبطني دائماً كلما توددت إلى سارة.
سارة: هالة من النور تضيء حياتي.. فإذا ما انطفأت توقفت الحياة..
*****
النظر إلى عيني سارة يحتاج إلى تفرغ تام, وكوب من الشاي, وإلى الكثير من التأمل.. هذا ما أدركته وأنا أقود في طريقنا إلى الحفل. حين أخبرتها بسبب توقفنا على جانب الطريق ضحكت وأخبرتني بأنني "بكاش". وحين تضحك سارة لا أشعر سوى بأن قلبي كان منهكاً من طول الوقوف ثم على ضحكتها استراح وجلس..
أمد يدي نحو يدها فتشب ياسمين من المقعد الخلفي متسائلة عن سبب توقفنا. أرفع يدي على الفور قبل أن أنظر في المرآة بامتعاض. تبتسم زوجتي, ثم تتعامل مع الموقف.
أحب ياسمين كثيراً, لكنني لا أطيق أن تشاركني في سارة.. أحسدها وأغار منها, فمنذ أتت, شغلت ذلك الموضع من مفرق صدر حبيبتي والذي كنت أزرع وجهي فيه كل يوم.
أدخل إلى الحفل ممسكاً بيد سارة بعدما رفضت ياسمين أن أمسك يدها وقالت إنها كبرت.
- طيب ما أنا ماسك إيد ماما!!
لا ترد سوى بامتعاض خفيف على وجهها. كم تحيرني هذه الصغيرة, وكم تفاجئني بأفعالها, بالأمس بكت كثيراً حين رفضت أمها أن تضع لها أحمر الشفاة, وخلال الأيام الماضية كانت تلبس حذاء أمها, وتقف ممسكة بعصا المقشة وتقول "أنا ماما". والآن تريد أن تمشي وحدها وألا تمسك يدي على عكس "ماما" تماماً.
تنظر إلي سارة مبتسمة وتقول تفسيرات علمية لا تهمني عن إن البنت تتدرب على أدوارها الأنثوية, وأنها ترغب أيضاً في التحرر والاستقلال.. وتسرف في هذا الكلام الغليظ الذي لا أفهمه.
أنا أفهم فقط هذا الخوف الذي يعتريني حين تنفلت يدها من يدي وتجري بين السيارات, أو حين أبحث عنها حولي ولا أجدها. هي تقول إنها "ماما", وأنا سعيد بهذا, بل وأتمنى أن يكون لدي ألف "ماما" طالما سيصبحن كلهن صورة مكررة من سارة.
ما أن رأتنا سلمى بنت خالتي ندخل الحفل حتى أسرعت نحوي..
****
استدراك:
سلمى: هالة من الهباب تطين حياتي كلما سنحت لها الفرصة, وهي خطيبتي السابقة.
أنا: قط شيرازي مدلل يلتزم الصمت بينما تعبث أي حسناء بفرائه الناعم.
****
كعادتها تعاملت سلمى معي بلطف خبيث, وأطالت في السلام, والابتسام. فانقلب وجه سارة, ثم على الفور انطفأ النور..
سكت الجميع سكوتاً مؤقتاً, وسكنت الموسيقى. بحثت عن ياسمين في فزع فلم أتبينها من الظلام. قبل أن تعلو الأصوات والهمهمات في أرجاء المكان, فتح النور وتداعت الموسيقى. ثم سمعت صوت ياسمين يأتي من آخر الصالة وهي تهتف قائلة "هيه". ورأيتها وهي تقف على كرسي وتمسك سكينة الكهرباء.
قبل أن أتحرك من مكاني, كانت ياسمين قد جذبت السكينة مرة أخرى ليتوقف كل شيء في المكان. وعندما فتحت النور مرة أخرى, جريت أنا وسارة نحوها.. أمسكتها قبل أن تمتد إليها يد أمها بالعقاب.
****
تعديل:
ياسمين: قبس من نور سارة, وقطعة حبيبة مني تبذل مجهوداً ملحوظاً في التدرب على أدوارها الأنثوية.
كتبها عمرو الساعة 2:30 م 55 تعليقات
سبتمبر 16، 2009
تأملات
كنت قد تحدثت في التدوينة قبل السابقة عن مفهومنا الأرضي المغلوط للعدل الإلهي. وقلت إن ما لا يعجبنا من حالنا ليس ظلماً من الله وبذلك لا يستوجب العدل أو العوض. وإن الاختلافات بين البشر إنما هي وسيلة لعدل سماوي له مفهوم آخر يعنى في الأساس بالتكامل والتكافل. في هذه التدوينة سأتأمل بعض الآيات القرآنية التي قد تصل بنا لنفس المنتهى, وللمزيد من الأسئلة.
اليوم استيقظت من النوم بينما كنت أردد: "ولسوف يعطيك ربك فترضى, ألم يجدك يتيماً فآوى, ووجدك ضالاً فهدى, ووجدك عائلاً فأغنى".. (الآيات 5-8, سورة الضحى)
يقول الشيخ خالد الجندي (وأنا أحب هذا الرجل على الرغم من كل ما يثار حوله) إن ذروة عطاء الله للعبد ليست السعادة, فالسعادة شعور مؤقت زائل, وإنما ذروة عطاء الله للعبد هي الرضا. ومن هنا فالله لم يقل لرسوله ولسوف يعطيك ربك فتسعد, وإنما قال فترضى..
يعجبني كثيراً هذا الكلام وأراه صحيحاً, لكنني لا أملك سوى التفكر فيما يلي الآية الخامسة. فالله أوجد نبيه فقيراً, وأوجده ضالاً, وأوجده عائلاً, فلماذا يقول "يجدك" ولا يقول "أوجدك"؟ لماذا لا يقول الله إنه خلق نبيه فقيراً وضالاً وعائلاً؟
لا أعلم إجابة لهذا السؤال, لكنني أعلم من خلال ما جاء في هذه الآية أن الأصل في الإنسان الفقر, والجهل, والحاجة, وأن الله يمن على من يشاء بأن يرزقه المال والعلم والكفاية, وبأن يرضيه.. يمن الله على من يشاء.
إن لم يكن استنتاجي مقنعاً, فلتتأمل معي قوله تعالى في سورة النجم "أم للإنسان ما تمنى" (آية 24 سورة النجم). ورد أن هذه الآية نزلت في الكفار.. قيل في الوليد بن المغيرة وقيل في النضر بن الحرث. والمعنى الشائع في التفاسير أن ليس للإنسان ما تمنى من شفاعة الأصنام. إلا أن الكثير من التفاسير أوردت الكثير من التأويلات لهذه الآية. يقول ابن كثير "أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له".
أنا لست من هواة إخراج الكلام من سياقه. إلا أن هذه الآية جاءت منفصلة عن الآية السابقة في سورة النجم والتي كانت بالفعل تتحدث إلى المشركين "إن هي ألا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.." إلى آخر الآية الكريمة. كما أن وضع الآية 24 ملغز. لماذا فصلها الله عن سابقها, وجعلها عامة ثم أتبعها بقوله "فلله الآخرة والأولى" أي الدار الآخرة والدنيا؟ ولماذا فسرها ابن كثير بهذا التفسير؟
أرى أن الآية تشير أيضاً إلى أن الملك ملك الله ولا يكفي التمني للحصول على الشيء, وإن كان خيراً. وتشير الآية التي تليها إلى نفس النتيجة السابقة (فلله الآخرة والأولى) أي أن الله مالك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء.
كي تكتمل الصورة دعونا نتأمل في قوله تعالى "لكي لا تأسوا على ما فاتكم, ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" (سورة الحديد آية 23). أرى من خلال ما قرأت في تفسير هذه الكلمات وأميل إلى أن النصف الثاني منها لا يعني الفرحة التي نعرفها, أي السعادة, وإنما المقصود هنا التفاخر على الناس بما آتانا الله وهذا واضح من العطف على جملة "والله لا يحب كل مختال فخور". لكنني أتوقف عند لفظة "فاتكم". لم يقل الله هنا على ما أصابكم من بلية, ولكن قال ما فاتكم. أي ما تمنيتموه ولم تحصلوا عليه.
قد يقول البعض أن كلامي به مغالطة كبيرة ويذكر ما جاء عن حبر الأمة (ابن عباس), حيث قال إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه "ثم قرأ " لكي لا تأسوا على ما فاتكم " أي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم ". من يقرأ كلام ابن عباس وحديث الرسول (ص) قد يستدل خطأ على أن الآية موجهة للحديث عن المصيبة وإلا لما ذكر الرسول اللفظتين "يصيبه و أصابه"
لكنني رجعت إلى ما أحفظ من نصوص فوجدت حديثاً لرسول الله (ص) يقول فيه "عجباً لأمر المؤمن, إن أمره كله له خير. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
وبالتالي فاللفظ أصاب يأتي على شاكلتين. أصاب خيراً أو شراً, ويقال أيضاً خير أصابه, أو شر أصابه. وبالتالي أعود لأتوقف عند قول الله تعالى "لكي لا تحزنوا على ما فاتكم".
فالإنسان يتمنى, وهو قد يعطى أمنيته, وقد لا تعطى له, فإن حرم منها لم يكن له أن يجزع, لأن الله مقدر الأقدار, وهو واهب الرضا..
لكن متى يرزق الله العبد الرضا؟ ربما الإجابة في سورة الضحى "فأما اليتيم فلا تقهر, وأما السائل فلا تنهر, وأما بنعمة ربك فحدث"..
هل يكون الرضا في اجتناب حرمان الآخرين مما حرم منه الفرد والعرفان بنعمة الله على الإنسان؟ سؤال لا أجيب عليه.
كتبها عمرو الساعة 6:26 ص 31 تعليقات
سبتمبر 15، 2009
بين عربتي قطار
رمقها عامل القطار وهي تضع أبناءها في المخزن المخصص للحقائب فعاد ليفتح الباب الفاصل بين الطرقة والعربة التي كان بها..
كانت تعلم ديته فأخرجت زوجا من الجنيهات ودسته في جيبه.. تظاهر الرجل بأنها أساءت فهمه ثم أعرب عن قلقه من أن يكتشف الكمساري الملعوب, لكنها طمأنته.
لحظات قليلة وتحول المكان الفاصل بين العربتين إلى سيرك وكأن هذه السيدة جاءت تتبعها البشرية كلها.. وقبل أن أفرد الجورنان وأجلس كانت أرض الطرقة قد امتلأت بالنائمين.
لا أعلم بالضبط ما الذي دفعني إلى تكرار النظر إليها .. كانت سمراء طويلة ممتلئة وكانت ذات عيون سوداء كالليل, ترتدي فستانا أبيض يكشف عن مصحف معلق على مفرق نهديها.. كنت أحاول أن أبعد نظري عنها لكن دون جدوى.
مالت على الرجل الذي يجلس بجوارها على الأرض وبدأت تحكي.. كان الرجل منشغلا في قراءة كتاب عن "جيفارا" بدا واضحا أنه لا يريد أن يسمع.. مصمصت شفتيها وتمتمت ببعض كلمات, ثم وضعت يدها على صدرها وقلبت المصحف الذهبي.
سرعان ما أكلها الملل قامت ومشت بين النائمين.. كان كعب حذائها العالي يزيد من عدم اتزانها حتى كادت تقع.. قبل أن يحدث ذلك مد الواقف عند النافذة يده لها .. وأحست أنه من الأنسب أن تتبادل معه أطراف الحديث..
من بعيد أشار الرجل إلى المصحف المعلق في صدرها .. أخبرها أنه من الحرام أن يعلق المصحف على نهد عار وأنه سوف يدفع خمسين جنيها كي يجنبها هذه المعصية.. على الفور خلعت السيدة حذاءها وقبل أن تهوي به على رأس الرجل كنت قد أمسكت يدها ..
استيقظ بعض الراقدين على صوت السيدة وهي تسب الرجل وعلى صوته وهو يصمها بالكفر.. ثم عادوا مرة أخرى إلى نومهم.
عادت السيدة إلى مكانها الأول وهي تتمتم بأن اليوم كان بائنا من أوله ..
فتحت خزنة الحقائب وأدخلت بعض الطعام إلى أبنائها.. حذرتهم من الخروج أو إصدار أي صوت حتى لا يحس بهم الكمساري وهي ليس معها نقود تدفعها لهم.
أخرجت من حقيبتها زجاجة بيرة ثم رشفت منها رشفتين.. نظرت إلي وأنا المستيقظ الوحيد في المكان, وأخبرتني أنها لا تشرب الخمر.. ثم ضحكت..
كانت المسافة إلى القاهرة بعيدة وأنا مللت من الوقوف ومللت من الصمت... ابتسمت لها.. ولم أرد.
بعد قليل اقتربت مني بشكل أظهر التجاعيد على وجهها.. وضعت ذراعها اللين على كتفي.. لامست خصلات شعري الحالك.. واحتضنتني بقوة.. ثم حكت عن مسكنها في القاهرة وأهلها في أسوان, وعن نفسها وكيف أنها أنجبت الكثير من الأبناء وأن بنات "اليومين دول" لا يستطيعون أن يفعلوا ما فعلته .. ثم قطعت كلامها وسألتني أن أحملها إلى بيتها إذا سكرت....
من مجموعة كوابيس الفتى الطائر.
نشرت في أخبار الأدب يوم الأحد الموافق 29 أكتوبر 2006 م.
كتبها عمرو الساعة 2:56 ص 15 تعليقات
سبتمبر 14، 2009
أسطورة العدل
بداية, فإن الكلام الذي سأقوله اليوم وإن كان يمس بعضاً من جوانب الدين إلا أنني لا أقره بقدر ما أتساءل عنه..
منذ سنين كثيرة استمعت إلى الشيخ الشعراوي وهو يتحدث عن عدل الله. قال الشيخ أن الله ساوى بين جميع البشر, لكن عدله له حكمة. فقد أعطى الله لكل إنسان فدان من الرزق, والفرد قد يأخذ أغلب هذا الفدان من المال, أو الصحة, أو الدين, إلى غير ذلك من مقومات رزق الله للعبد. وبالتالي فالجميع متساوون, لأنهم جميعاً أخذوا فداناً واحداً.
لكن كيف توصل الشيخ إلى هذا الاستنتاج؟ القرآن مليء بآيات تقول إن الله رفع بعضنا فوق بعض درجات, وإنه لو أراد لجعلنا أمة واحدة. القرآن مليء بالآيات التي تقول أن هذا الاختلاف بين العباد مقصود, ولا ينفي الله عن نفسه في أي آية هذا الأمر, بل أرى أن فلسفة الآيات تشير إلى أن في هذا الاختلاف قمة المساواة.
كيف توصل الشيخ إلى هذا الاستنتاج؟ ربما هي فقط حكمة العامة أو ما يطلق عليه Conventional Wisdom.. لا أعلم. أبحث في عقلي فلا أجد أساساً لهذا. الاختلاف هو الأساس الذي بني عليه الكون. فالمميزات والواجبات التي يتمتع ويدين بها كل من الرجل والمرأة مختلفة للغاية, وهذا الاختلاف يؤدي إلى نوع من التكافل, فيه خير الأسرة.
كذلك فحكمة الله قضت بأن يكون هناك غني وفقير, ناجح وفاشل, وقوي وضعيف, وزنجي وأبيض.
"رأيت كلباً مرفهاً يركب سيارة فارهة, ورأيت طفلاً فقيراً بلا قدمين"
هل يسوي الله بين هؤلاء في الدنيا؟.. لا أعتقد, فهناك من يموتون من المرض والخوف والجوع.. هناك من يموتون ميتة الذباب كل يوم, لا يلتفت إليهم أحد. وهناك من يتمتعون بالتعليم والرعاية الصحية والرفاهية الكاملة.
يقول البعض أن الله سيسوي بيننا في الآخرة.. وأنا أرى أن هذا ليس عدلاً, فالمال الذي افتقر إليه شخص في الدنيا, تلك المرحلة الوقتية القصيرة طبقاً لاعتقادنا, والغنى الذي تمتع به آخر, لا يتساوى الانتفاع به إذا ما عكسنا الموقف في الآخرة الدائمة السرمدية.
أرى أن الله خلقنا بهذه الاختلافات الشاسعة, وأنه ليس ملزماً بالعدل بيننا. فالعدل هنا هو الاختلاف والتكافل واللامساواة "ولا يظلم ربك أحداً".
في الأيام الأخيرة كنت أقرأ كتاب مالكوم جلادويل Outliers أو المتفردون. يناقش الرجل من خلال دراسات إحصائية أمراً صدمني. فهو يقول إن الموهبة والعبقرية والنبوغ والإرادة والتحدي وكل تلك المقومات التي ننسب إليها النجاح -نحن دائماً نقول أن من جد وجد- هي مقومات مهمة لكنها لا تؤدي بالضرورة إليه. وإنما تؤدي الفرصة إلى النجاح. والفرصة قد تأتي أو لا تأتي.
تشمل الدراسة الناجحين من بداية عصور الفراعنة إلى وقتنا الحالي. وتعرج على أشخاص مثل بيل جيتس وبيل جوي وإلى فرق غنائية مثل البيتلز, كما تبحث عن العباقرة الذين يزيد ذكاؤهم عن 180 درجة. وتنتهي إلى أن سيرة جميع الناجحين تشير إلى وجود فرصة وصلت بهم إلى ما هم فيه.
فبيل جيتس, ولد لأب وأم ثريين. أدخلاه مدرسة راقية, وكانت هذه المدرسة هي أول المدارس التي تدخل تعليم الحاسب الآلي إليها حتى قبل الجامعات. وقد أتيحت لبيل فرصة التمرس على الحاسب قبل أن تتاح للعلماء من الأجيال التي تسبقه. ومن هنا ظهر الأسطورة. تعالوا نتخيل أن هذا الرجل ولد طفلاً عادياً في إفريقيا, هل كان سيصبح نابغاً في أي شيء؟
يثبت جلادويل بما لا يدع مجالاً للشك, أن من هم أكثر عبقرية من أينشتاين, لم يصلوا إلى خمس إنجازاته.
العجيب أن قراءاتي أيضاً تثبت ذلك. فلنأخذ أحد الموسيقيين العظام, مثلاً تشايكوفسكي الذي أحبه, كان يدرس الحقوق, وتخرج للاشتغال بالمحاماة. وكانت الموسيقى هوايته, لكنه لم يكن قد عزف أياً من عبقرياته. المهم أنه كان يعمل أغلب اليوم.. هل كان من الممكن أن يحقق التميز في مجاله وهو يضيع أغلب الوقت في البحث عن لقمة العيش؟ بالطبع لا.ما حدث هو أن سيدة ثرية سمعته ذات مرة وهو يعزف وأحست بموهبته, فقررت أن تعطيه الفرصة. أنفقت عليه هذه السيدة حتى أصبح تشايكوفسكي الذي نعرفه.
المعجزات لا تنزل من السماء كي تنجد الكسالى, أو المجتهدين.. المعجزات لا تأتي, وقد يمن الله على عبده بالفرصة أو يقطعها عنه.. والله غير ملزم بالعدل الأرضي كما نفهمه. فعدل الله مختلف..
كتبها عمرو الساعة 5:50 ص 24 تعليقات
سبتمبر 12، 2009
أن تكون عباس العبد
فوهة من الضوء تبهرك فتقترب, يدفعك الفضول إلى وضع يدك فيها, فتسحبك, ولا تملك سوى أن تترك نفسك لها, كي تنقلك إلى عالم آخر.. عالم مماثل تماماً لعالمك, ترى فيه الأشياء بوضوح أكثر. هذا هو سيحدث لك حين تقرأ السطر الأول من "أن تكون عباس العبد".
يتحدث الراوي في البداية عن المنتصف, وهذا أسلوب غريب, لكنك بالفعل لن تفهم البداية سوى في المنتصف, إذ ستعرف مبكراً جداً أن هند لا تحب إضاعة الوقت كالأخريات, وبالتالي فهي "تكتب رقم الموبايل على أبواب الحمام من الداخل بالقلم المضاد للماء, ثم تمرر ورقة (كلينكس) مبتلة بالصودا عليها وهنا يستحيل محوها يا كوكو". هذه البداية الغريبة تترك القارئ يتساءل, من هي هند؟ ومن هو كوكو؟ ورقم من هذا الذي تكتبه هند في حمام السيدات؟ وربما يخمن أن الرقم هو رقم الراوي, أو ربما رقم كوكو.. لكنه سيعجب بالتأكيد بالفكرة وربما يميل إلى تجربتها.
تكتب هند الرقم على باب الحمام كي تراه السيدات فيتصلن. ثم ينتهي هذا الجزء, لتبدأ البداية الفعلية.
يبدأ الراوي بتعريف نفسه قائلاً "أنا من بصق الآخرون نحو وجهي ألف مرة", العجيب أنه يبدأ بعد هذا التعريف بسؤال نفسه/ شخص آخر/ القارئ مجموعة من الأسئلة التي تحرضه أيضاً على الحنق والغضب مثل أن يسأله "أجربت أن تكسر إشارة حمراء أمام لجنة مرور مثقلة بالرتب دون أن تكون رئيس دولة ما؟", ثم يعطي القارئ جرعة من الخوف والغموض وينهي حديثه بجملة تفتح مصراعي العمل:
يمكنك الآن أن تقلق.
فمعاً سنذوق الخيال رشفة بعد رشفة.
يبدأ كل فصول العمل بمفتتح أوله جملة "لا تصدقها" وهذه الجملة التحذيرية قد تشير إلى التحذير من الدنيا أو أي أنثى (حبيبة مثلاً), وبعد أن تنتهي العبارة التحذيرية يقول الراوي "تلك هي الحقيقة بكل قسوتها, فافعل ما يحلو لك". مرة أخرى, لن تفهم أهمية هذه الجمل قبل أن تنتهي من الرواية.
في متن الفصل تبدأ حكاية شاب عادي يركب الميكروباص ويتوجه إلى أحد نوادي الفيديو ويبدو لك أنه يعمل هناك. في الطريق بالمايكروباص, يكشف البطل عن الوجه الآخر للحياة. فالراوي يجلس في عربة من العصور البائدة ويبصق الراكب الذي أمامه, فتخرج البصقة من النافذة ثم تعود لتلتصق بوجه الراوي, بينما يجلس آخر في سيارة فارهة يداعب بيديه ركبة فتاة جميلة. هنا تبدأ في استشعار الآلية التي ستعتمد عليها الرواية ككل. فكل المعاني يتم إبرازها من خلال الاختلاف والتناقض. ومصر في المشهد السابق توصف من خلال النقيضين, كما توصف من خلال تناقض حال الفتاة المرفهة في السيارة وحال بائعة المناديل التي يدفعها أحدهم بقسوة لتقع, ويصفها أحمد العايدي قائلاً:
فتيات الليل يخلقن هنا في وضح النهار..
(غداً) تتحول الطفلة لجسد من دوائر تقبل الإهانة هندسياً من أي مستطيل حقير.
فليحرسها الضمير الهرموني لأي عربي شقيق.
في مثل هذه الجمل المكثفة, المقتضبة أحيانا (ولكن بفنية عالية), يصف أحمد العايدي ما ستؤول إليه الأشياء, ويلمح إلى مصير محتوم لها.
حين يتكلم الراوي في محل الفيديو تشعر أنه طبيب, أو طالب للطب, لكن النص لا يتركك تستقر على نتيجة. يقول الراوي إنه تربى على يد عوني, عمه الذي سقاه الويل. وعوني كما يوصف هنا شخصية لا يعرف قلبها الرحمة. فهو وضع الراوي عندما كان طفلاً في الثلاجة وأغلق عليه الباب ليصاب بفوبيا الأماكن المغلقة, ثم علقه في سور السطوح ليصاب بفوبيا الأماكن المرتفعة, ثم أغلق عليه الغرفة ونثر على جسده الصراصير بعد أن قيده فيصاب الراوي الطفل بألف فوبيا يذكرها في قائمة طويلة, ويصاب الراوي فيما يبدو بزملة من أعراض الخواف تتشابك فيما بينها. وهنا لن يستنتج القارئ سوى أن عوني يفعل هذا من أجل التلذذ بساديته.
عوني الذي نكرهه, يتكلم في الهاتف ويصف العلاج للآخرين, ولا تعرف من أين جاء, وكيف يساعد الآخرين وهو بهذا السوء. ثم تظهر شخصية عباس أخيراً في كلام الراوي, الذي ينزل من الميكروباص (أقصد الراوي) فنفهم أنه لم يذهب من الأساس إلى محل الفيديو, ويتركنا نتساءل من هذا الذي كان يتكلم في الفصل السابق. يجلس البطل على القهوة منتظراً عباس, ثم يفتعل مشكلة مع صبي القهوة وتقوم معركة كبيرة, يخلصه منها عباس بأن يضرب الراوي بشكل مؤلم حتى "يحوش عنه" الباقون. تلك هي فلسفة عباس في الحياة, لا تقاوم. افعل الشيء الذي يفعلونه حتى يفقد معناه, فإذا ما أسرفت فيه نهوك عنه. فلسفة غريبة جداً لشخص غريب.
عباس يختلف عن الراوي كثيراً, هما ضدان آخران. فعباس شخصية أقل ما يقال عنها أنها مقرفة, حتى أن هوايته هي جمع ذيول السحالي, وهو لا يحب تماماً أن يستمع إلى أي شيء معقد أو علمي, كما أنه سطحي للغاية وإن كان يعتمد على أمثال وعبارات عامية يبتكرها لبث فلسفته المريضة في الحياة, مثل أن يقول: "ما يصحش تعيش في الجبلاية من غير ما تشعلق القرد", أو ""اللي يبربشلك إنتف رموشه", أو "يدي التناكة لأولاد المحتاجة"
وهي كلها جمل أتى بها مما يطلق عليه "بليكة الحياة". عباس لا يرى من النساء سوى أجسادهن. يقضي الليل في حديث جنسي مع الفتيات, ويعد الرواي الذي انتقل للعيش معه بأن "يباصي" له فتاتين.
الراوي عكس عباس تماماً. شخص يتحدث دائماً بلسان العلم حتى أنه أحياناً ما يشير إلى دراسات في علم النفس عن الفوبيا, أو التقمص العاطفي التراجعي, أو إلى دراسات إحصائية.
"النساء يحاولن الانتحار أكثر من الرجال,لكن قلة منهن يفعلنها فعلاً. وبالمقابل فإن قلة من الرجال يفكرون في الانتحار, لكنهم يفعلونها فوراً".
يتحدث الراوي كلاماً حكيماً في أغلب الوقت فيقول جملاً مثل:
ثلاث نساء لا يمكنك الهروب منهن..
امرأة حطمتك.
وامرأة خانتك..
وامرأة لا تريدك.
شاب مغرق في الرومانسية, يحب شاهندة التي لا تظهر حتى نهاية الرواية. يحبها ذلك الحب الشريف الطاهر. فهو على عكس عباس تماماً الذي ينظر إلى المرأة على أنها وسيلة للمتعة.
يصدق عباس و"يباصي" فتاتين. العجيب أن الفتاتين لهما نفس الاسم:"هند". ولا أعتقد أن التشابه هنا من قبيل المصادفة البحتة, فأنا أرى أن الهندين هما المرأة أو الفتاة أو الأنثى في حالتيها القصوى والدنيا, فهند الأولى بنت الجامعة الأمريكية التي تتكلم أغلب الكلام باللغة الإنجليزية, وهند الثانية عاهرة مأجورة لا تعرف أي شيء عن الحياة غير قصص ترويها على الفراش عن ماضيها المؤلم.
إحداهما هند, والأخرى هند أيضاً.
إحداهما في الطابق الأول, والأخرى في الطابق الثاني.
إحداهما ترغب في علاقة نظيفة, والأخرى تطلب أن تريك شامتها المفضلة لأنها (مرتحالك)
مرتحالك بجد
الفرق بين هند وهند إذاً, كالفرق بين عباس والراوي. ضدان جديدان يدخلان إلى الأحداث. يقابل الراوي الهندين على أنه عباس, فتكتشف هند الطابق الأول المثقفة أنه ليس من كانت تحبه على الهاتف, وينجح هو في إقناعها بأن تثأر لنفسها من عباس. بأن تكتب رقم هاتف الأخير على أبواب الحمامات في المولات والأماكن السياحية, فيتصل به الأمن ويداهموه. ينجح الراوي أيضاً أن يأخذ هند الطابق الثاني إلى شقته بعدما يدس لها ما تريده من نقود في يدها.
هند لا تعرف شيئاً عن تحول الشرانق إلى فراش, لكنها تعرف كيف تتحول الأنثى من فتاة إلى ممسحة.
في الشقة يحدث أمراً لن تتمالك نفسك حين تصل إليه. لن تتمالك نفسك من الإعجاب بالكاتب الذي يكشف لك داخل هند الدور الثاني عن واحدة تشبه إلى حد كبير هند الدور الأول. فهي حين تتحدث إلى الراوي وتحكي حكايتها يبدأ في التعاطف معها, وينظر إليها على أنها من البشر وبالتالي لا يستطيع أن يقوم معها بما اتفقا عليه.
هند الدور الأول تفعل ما اتفقت عليه مع الراوي وتأتي إليه في شقته, لتجده على السطوح يشوي الدجاج مع هند الطابق الثاني. في هذه اللحظة تتصل شاهندة ويرد البطل. تخبره شاهندة أن عبد الله مات في أمريكا, وتقول له يا عوني.
تكتشف أنت عزيزي القارئ أنك قد خدعت بمكر كاتب مبدع. فعباس وعوني والراوي هم شخصية واحدة, والراوي/عوني يحاول تقمص شخصية عبد الله الذي عذبه. عوني هو طبيب الأمراض النفسية الذي قرر أن يصل بعبد الله لأكبر قدر من الخوف من أي شيء وكل شيء, وأن يبدأ بعد ذلك في علاجه باستخدام أسلوب التقمص الانفعالي التراجعي. وهذا الأسلوب يقوم على أن "يضع طبيبك النفسي نفسه في حالتك، بأن يتعرض لكل ما تعرضت له باستخدام مزيج من الخيال والواقع وبعد ذلك يجب علي الطبيب أن يعالجكما معا، أنت وهو".
يأخذ عوني الطفل الصغير ويدخله في دوامة المرض, لكنه يعجز عن العودة به وبنفسه إلى بر الصحة النفسية. ولأن هذا الأسلوب محرم استخدامه, تقوم الدولة بشطب اسم عوني من ممارسي الطب النفسي, فيلجأ إلى الولايات المتحدة وهناك تلقى تجربته صدى على فشلها.
لغة العمل هي نوع من الكولاج. إذ تعتمد على الجمع بين لغة المثقف ولغة الشارع في مسافات متجاورة لأن الشخصيات تحتمل ذلك. هذا الكولاج أيضاً يجمع بين اختصارات الإنترنت والجمل المكتملة, بين العربية الخالصة والعامية والإنجليزية. كما مكن الحديث عن الخواف الكاتب من استخدام لغة لاهثة مقتضبة في أغلب فصول العمل.
يستخدم الكاتب اسلوباً غير معتاد على القارئ العربي في الروايات, فهو يميل إلى تكبير خط بعض كلمات دون أخرى لإعطائها نوعاً من التأكيد أو دلالة معينة. كما أنه يذكر الأصوات من خلال حروف محاكية لها. فعباس مثلاً لديه لزمة حركية, فهو يفتح "السوستة" ويغلقها باستمرار, ويتم التعبير عن هذا بصوت يكتب هكذا "زيززززت. زززززت". هناك أيضاً تضفيرة متقنة بين الجانب النفسي للنص والأورثوغرافي منه, فحين نتحدث عن مفهوم فرويد الذي يعبر فيه عن أن الأنا إنما هي جزء من أنا أكبر منه تحيطه فإن هذا يقال ويكتب بشكل غريب وملفت هكذا: (أنـ(داخـ(أنـ(داخـ(أنا)ـل)ـا)ـل)ــا).
لم يعجبني غلاف العمل الذي صممه أحمد اللباد على الإطلاق. ذلك أنه لا يشكل وحدة كلية تراها, ولا يعتمد على لون لافت, فالغلاف عبارة عن مساحة بيضاء عليها هاتف محمول تخرج نار من قمته, وفتاة تمد يهديها المختفيتين خلف المحمول, وثلاث فتيات في الأسفل لن تتبين أبداً ماذا يفعلن.. غلاف يهضم حق رواية بهذه القوة. كما أن الاقتباس الموجود على ظهر الغلاف لم يكن هو أفضل الأجزاء المعبرة عن العمل. وهذه الشريحة المرسومة بجوار هذا الاقتباس تدل على أن من صممه لم يقرأ بشكل جيد, أو أنه لم يفهم بشكل جيد, أو أنه لما رأى النص حداثياً, أضاف بعض علامات التقنية الحديثة دون وعي لما يضعه. فالجدلية الأساسية في النص هي الناسخ والمنسوخ أو ما يعبر عنه داخل الرواية بـCopy و Paste. أي أن الرواية تعتمد على تقديم المثيلين المتناقضين. فهي تقدم صورتين متشابهتين في أصلهما, مختلفتين في ظاهرهما. ربما كان من الأفضل أن يركز الغلاف على هذه الجدلية.
ثم يأتي ذلك الختم المستدير على غلاف العمل ليحدد جنسه الأدبي بأنه "رواية". والحقيقة أن هذا أمر سخيف أيضاً, فما بين ضفتي الغلاف لا ينتمي بشكل دقيق إلى فن الرواية التي نعرفها, وهو ليس بقصة قصيرة على الرغم من أن اللغة مكثفة والأحداث تتم في أماكن محدودة والشخصيات قليلة, وعلى الرغم من وجود عنصر المفارقة والمفاجأة والاحتفاظ به إلى نهاية العمل. قد يكون هذا العمل قصة متوسطة الطول, وقد يكون من الظلم أن نطلق عليه ذلك. لا أجد وصفاً أبلغ مما كتبته ميريت على الكتاب, فهي تصف هذه المجموعة من الأعمال بأنها "تجليات أدبية" وهي كذلك بالفعل.
عند الانتهاء من الرواية, لن يسعك سوى أن تقرأها مرة أخرى. فهي ليست رواية تقرأ مرة واحدة, وذلك لجمال الصياغة وحرفية السرد, بالإضافة إلى أنك ستجد متعة جديدة في قراءة الأحداث بينما تعرف النهاية, كي تبحث عن اتساق النص وترابطه وكي تفهم ما كان غامضاً عليك في القراءة الأولى.
بعد الانتهاء من القراءة ستقف كثيراً عند المعنى الذي يحمله العمل. ستسأل نفسك أولاً: “هل يحمل هذا العمل رسالة من الأساس؟” في الحقيقة هو يشير إلى جيل مهمش من الشباب, إلى شعب ليس فيه طبقة متوسطة, إلى تاريخ ثري يركل بالأحذية, وإلى الكثير من الأمراض الاجتماعية التي يولدها الفقر والجوع والموقف السياسي لبلادنا. لكنه من وجهة نظري لا يركز على أي من هذه الأشياء وإنما يمر عليها ويتجاوزها إلى اللعبة القصصية التي أعجبت الكاتب. أي تضيع القضية في النص لحساب حرفية السرد. فالقارئ ينشغل في النهاية بحك الموضع المعلوم منه وقد أصابته الدهشة, ولا يتذكر القضية من الأساس. فالعمل ينتهي عند تجمع أربع شخصيات في شخص واحد, ولا يدع مجالاً لتوضيح رسالة من التقاء الجانب الرمزي لهذه الشخصيات.
تكلم الكثيرون عن تشابه في أسلوب العايدي وميلان كونديرا, أو بين الفيلم ككل وفيلم Fight Club أو بين شخصية عباس والليمبي, لكن فروقاً واضحة وعمقاً آخر يميز هذا العمل وكاتبه عن هؤلاء جميعاً.
يستقي الكاتب الكثير من ثقافته من الأفلام الأجنبية. بدا ذلك واضحاً في العبارات الحوارية والوصف وفي هيكل العمل بوجه عام.
الهنة التي رأيتها في هذا العمل كانت في الإطالة في حديث عباس لهند الطابق الثاني, فالحوار بينهما على الرغم من أنه ممتع إلا أن التطويل فيه غير لازم من الناحية الفنية. قد يعيب العمل أيضاً تلك التكرارات المقصودة لصفحات منه في مواضع معينة حتى أنني وجدت نفسي أقلب الصفحة دون أن أقرأ.
الخلاصة أن هذا العمل قد يشكل نقطة فاصلة في الأعمال الروائية, وأن نجاحه لم يكن من فراغ (على الرغم من أنه العمل الأول لمؤلفه), وهو بالفعل يستحق أن تدفع فيه المال.
كتبها عمرو الساعة 1:48 م 44 تعليقات
أشرف توفيق
اكتشفت اليوم شاعراً مجيداً وقصيدة مبهرة. لن أكثر من الكلام عنه, فأنا لا أعرفه, لكن يكفي أن أستمع له فأعرف على الفور أنه موهوب..يمكنكم قراءة الكلمات هنا.
كتبها عمرو الساعة 2:29 ص 26 تعليقات
سبتمبر 11، 2009
حاجة غريبة والله (3)
قال صديقي (س) الذي عاش بمفرده لما يزيد عن سبع سنوات أن الزواج أمر صعب. حين استفسرت عن ذلك رد: "تبقى قاعد في القوضة وفي حركة في المطبخ". هذه الجملة كانت كفيلة بأن أضحك لسنوات بعدها, أنا صاحب الخبرة المحدودة.
العجيب أن السنوات دارت ووقعت في موقفه (لكن هذا لا يعني بالطبع أنني تزوجت هههههه). فحين عدت للبيت بعد شهور من الانفراد بنفسي في شقتي الفندقية عالية المستوى بالقاهرة, شعرت بما قال. أي كلمة وأي حركة حولي أصبحت تثير انتباهي بشدة. الأصوات تزعجني, حتى أنني أقمت حملة "وطي صوتك" في بيتنا. أمي قالت إنني اعتدت على الوحدة, وسأعتاد بعد أيام على التواجد معهم.
بحثت في عقلي عن تفسير علمي لهذا. ربما يفسر هذه الظاهرة ما قرأته عن طريقة إدراك العقل البشري للمثيرات. فالجهاز العصبي لا يمرر لنا كل المثيرت بل يقوم بترشيحها أولاً. بمعني أنه يقوم بحذف المثيرات المكررة واستقطاب المثيرات المميزة. ولو أن جهازنا العصبي يلتقط كل مثير لأصابنا الجنون. فصوت القطار الذي يعبر بالقرب من بيتنا, وأصوات أبواق السيارات, وصوت التليفزيون خارج غرفتي, وإخوتي وهم يتحدثون, كل هذه أصوات كانت تعتبر مسلمات للجهاز العصبي قبل أن أسافر, لكنها بعد فترة أصبحت مثيرات مميزة ينتبه لها بشدة.
وكي أقرب الموضوع بشكل أكبر, تخيلوا معي أنكم تخافون من الفئران, ثم يدخل إلى الشقة فأر ويكون عليكم أن تواجهوه. هنا يتنبه الجهاز العصبي تنبهاً كبيراً, فيبدأ بالتقاط كل المثيرات, فيجد الفرد نفسه فزعاً من مجرد ملامسة ملابسه لجسده, وهو مثير كان يتم حذفه في الأحوال العادية وبدا ضخما في حالة الخطر لما تتطلبه هذه الحالة من انتباه لكل المثيرات.
للاعتياد على الوحدة ميزة هامة, فالوحدة ترفع عن الإنسان عبء الترشيح والحذف, ليظل مركزاً فقط على التأمل والتفكير الصافي. وله ميزة أخرى, فحين تعود إلى حياتك السابقة تراها بعد أن انفصلت عنها, وترى عيوبها التي اعتدت عليها, فتسعى إلى التغيير. العجيب أنني أتوق الآن إلى العودة إلى معزلي.. مع علمي التام بأنني لن أستريح فيه طويلاً.
كتبها عمرو الساعة 3:10 ص 20 تعليقات
سبتمبر 10، 2009
من التاريخ السري لعمرو السيد (4)
الرجل الذي على المنصة يقول كلاماً مكروراً, وعادياً جداً.. والكثيرون من حولنا يتمايلون وتخرج منهم جمل مثل "إممممم... يا سلام.. برافو عليك, حلوة حلوة حلوة", بينما كنت أشعر أنا والشمسي أننا وصلنا إلى نقطة الغليان من الغيظ. نحن لسنا غاضبين لأنهم يعجبون بما يقدم ولكن لأنهم ينظرون إلى بعض ويهمسون بعكس الكلام تماماً. بل يتبادلون نظرات تعني "شوف المغفل, فاكر نفسه كاتب".
كان هذا اللقاء في ليالي المحروسة التي أقامتها الدولة كي يلتقي "المبدعون". المشكلة أن أغلب اللقاءات الأدبية لعواجيز المبدعين تحدث فيها هذه الأشياء. فمثلاً حين ذهبت أنا والشمسي ومصطفى لمؤتمر أدباء مصر سمعنا أحدهم يتحدث عن الدكتور مصطفى رجب (وهو لمن لا يعرف أحد الشعراء الساخرين المميزين وعالم في التربية صدر له الكثير من الدواوين بالفصحى والعامية ناهيك عن الدراسات التربوية) على أنه من أنصاف المواهب ثم حين أتى الرجل أخذه بالأحضان والقبلات والمديح!!
أغلب العواجيز من المبدعين لم يعد متمكناً من اللحاق بتطورات المجال الإبداعي الذي يعمل فيه, وأغلبهم لا يزال يكتب بطريقة العصور البائدة. الأنكى من ذلك أن أغلبهم قد تحول إلى كيان معقد من الأخلاق والتصرفات غير السوية. فمن الشائع والمقبول أن يترك هؤلاء الملتقى أو الندوة للجلوس على القهوة لشرب المعسل أو السجائر التي قد تكون ملفوفة. بل إن بعضهم لا يستطيع الكتابة إلا بعد تدخين سيجارة من الحشيش من النوع الممتاز!!
منذ متى وأنا أذهب إلى هذه الزبالة التي يطلقون عليها لقاءات أو ندوات أو ورش أدبية أو أي شيء من هذا القبيل؟ أعود بذهني إلى الخلف فأتذكر أن أول من أرشدني إلى نادي الأدب كان نجيب رحمه الله. رآني ألقي الشعر في أحد اللقاءات غير الأدبية فدعاني إلى النادي. الرجل كان طيباً دمث الخلق, وكان لا يكتب, وإنما كان مجرد موظف إداري, لكنه مع الأيام بدأ يكتب القصة. أذكر أن آخر قصة سمعتها له كانت تتحدث عن رجل يموت وتتفق زوجته على الزواج من صديقه, بينما الميت لم يبرد. لا أذكر عنوان القصة حالياً, كان شيئاً يعني "الأصدقاء يقومون بالواجب". المهم أن نجيب نفسه توفى بعد أن كتب هذه القصة, وتركنا أنا والشمسي في صدمة كبيرة, فقد أدركنا بعدما رحل أننا كنا نحبه كثيراً.
مات نجيب الطيب النقي وتركنا في مجتمع من الأدباء به الكثير من الشخصيات المحترمة مثل محمد عبد المطلب (أستاذي) وجميل عبد الرحمن (شاعر حاصل على جائزة الدولة التشجيعية) وكثيرين غيرهما, لكن به أيضاً أنصاف شخصيات مريضة.
العجيب أن جيل الشباب به الكثير من المبدعين الحقيقيين الذين لا يحصلون على الفرص. فكتب العواجيز يعاد طباعتها للمرة الخامسة والسادسة على حساب الدولة بينما يقف الكثير من الشباب يتفرجون. سأضرب مثالاً على أعمال الشباب التي أراها ناضجة بقصيدة سمعتها منذ ما يزيد على خمسة أعوام لكريمة الشريف التي اعتزلت الحياة الأدبية في مصر وسافرت للكويت.
مخاطبة
ما بال المروحة تميل قليلاً في السقف..
عن الوضع المعتاد
هل تقصد أن تهتز
وأن تصدر صوتاً
هل تطمع في أن تعطل
أم تلفت بعض الأنظار إليها
ولماذا حين انقطع التيار تراكم سرب
ذباب فوق المروحة طويلاً؟
ولماذا حين انداح هواء الشرفة
في قلب الغرفة عاد الصوت
وازداد أنين المروحة عويلاً
ألأن المروحة القابعة بأعلى
والطائرة بلا أي مسافات
طائرة في نقطة صمت؟
ويكبلها السقف الموت..
أم أن المروحة تخاطبني؟
كتبها عمرو الساعة 6:09 ص 22 تعليقات
سبتمبر 09، 2009
الشديد القوي
السادة زوار المدونة
يؤسفني بأن أبلغكم بأن كتابتي للتدوينات والرد على تعليقاتكم سوف يتأثران كثيراً في الأيام القادمة. فشركة اتصالات, جزاها الله عني كل خير, قطعت عني الخدمة بدعوى أني لم أسدد فاتورة الإنترنت. ونسوا أنه لا يوجد فرع لخدمة العملاء هنا في سوهاج, وأنهم لا يقبلون بطاقات ائتمانية غير تلك التي يصدرها البنك الأهلي والتي لا يملكها العبد الفقير إلى الله. ومن هنا كان لزاما علي أن أبلغكم بتأثر المدونة بهذه الظروف العصيبة, فأنتم تعلمون أني لا أغيب إلا للشديد القوي. وعليه فإنني سأحاول التدوين تحت هذه الظروف لكنني لا أعد بانتظام الخدمة كما كانت من قبل. أشكر لكم حرصكم على قراءة المدونة, ولا أراكم الله مكروهاً في يو إس بيهن لديكم.
والله ولي التوفيق
المدون
دائرة مكتملة وهلال بلا نقطتين
في طريق العودة من العمل تعاتب الجزار وتقف في طابور العيش. تعجز يداها عن حمل الأكياس المثقلة بالفاكهة, فتقف على السلم الطويل كي تستريح ويهدأ النفس. توقف المارين من الجيران على سلم العمارة, تشاكس أطفالهم, وتنثر بين الشقق الابتسامة.
تدخل إلى شقتها فتسرع بتحضير الغداء, وصنع الكثير من الحلوى وثلاثة أكواب من السعادة. تخبرني بأني قد أوحشتها وأنها لن تتركني مرة أخرى للسفر. أرشف من الكوب كي أبتسم, تنظر نحوي فتكشف السر وتعرف الخبر.
في المساء أكور جسدي فلا تكتمل الاستدارة, وأنام على فخذها كهلال صغير دون بكاء ودون ابتسامة. تربت على ظهري, ثم تحثني على البوح. تقول إنني ابن بطنها فلن أنجح في أن أخفي عليها, وهي التي تسمع الوجه قبل الكلام. تسمع الحكاية ثم تهدهد الروح, ولا تتركني حتى يغلبني النوم.
بعد صلاة الفجر, تفتح النوافذ فتجمع النجوم وتطفئ القمر. تسحب عن السماء ستارتها السوداء, ثم تثبت شمس النهار, وتعود إلى العمل.
كتبها عمرو الساعة 2:12 ص 30 تعليقات
سبتمبر 08، 2009
سامحني الله يا أبي
رصاصة تعبر فوق رأسي تماماً, فأشعر بالهلع بينما يضحكون. يقولون إن من أطلقها هم أبناء عمومتهم في الحقل المجاور, وأن هذا يحدث بين الحين والآخر كي يطمئن كلا الفريقين على استيقاظ الفريق الآخر.
أنبطح على الأرض ويستمر معي شعوري بالهلع. كل شيء حولي كان يذكرني بما أراه في مسلسلات الصعيد "الجواني" خاصة تلك التي تتحدث عن حياة المطاريد. كان المكان موحشاً بمعنى الكلمة. الظلام يحيط بنا من كل جانب, والصمت مطبق علينا, فلا يقطعه سوى صرير صرصور أو نقيق ضفدع أو أصوات الذئاب تتهادى من ناحية الجبل, أو سيمفونية الشخير تلك التي يحدثها ناصر بين الحين والآخر.
أضع يدي تحت رأسي.. وأشعر برعب شديد. حتى ملابسي صارت تثير رعبي حين يحركها الهواء, فأنتفض متخيلاً ثعباناً أو عقرباً يمشي على قدمي. سامحك الله يا أبي. قلت لك إني لا أريد أن أنزل معك إلى البلد وأنت أصررت. هل يعجبك ما أنا فيه الآن؟
الحق أنك لم تأت بي إلى هذا المكان الموحش.. لكن خطتك كانت مكشوفة. وأنا لم أكن لأمكث في البيت حتى تأخذني من يدي كي نزور بيت عمي وألتقي بهناء. قلت لك من البداية إنني لن أجلس معها ولن أراها ولن أقول رأياً فيها.
أغمض عيني وأتمنى لو أتمكن من العودة للبيت, فأجلس أمام التلفاز وأفتح التكييف, أو أجلس أمام الكمبيوتر وأتحدث مع جنيفر تلك الأمريكية الشقراء التي أعشقها.
أشعل سليم النار, فأضاءت ما حولنا, وأذهبت الكثير من الوحشة التي كنت أشعر بها. مر قليل من الوقت قبل أن يأتيني بكوب من الشاي صنعه بأن وضع كيس السكر كله ونصف كيس الشاي في صفيحة صدئة قديمة وغلا ما بها.. أو للأدق طبخ ما بها. ناولني الكوب وهو يقول أن شاي "الدمسة فيه الشفا". خجلت أن أرد يده. تجرعت الكوب على مرة واحدة, وشعرت كأن سحالي وثعابين تزحف نحو معدتي.
سامحك الله ثانية, يا أبي..
أدير نظري في المكان. حين قالوا إننا سنبيت في "المسطاح" لم أعترض, خاصة بعد أو وعدوني بأن المكان سيعجبني, وأنهم ينتظرون وقت الحصاد خصيصاً كي يحرسوا المحصول ويبيتوا وسط الحقول. طفت بنظري فيما حولنا فلم أر سوى أعواد الذرة منزوعة الرؤوس. تسربت إلى رأسي مشاهد الثأر والاغتصاب التي رأيتها في الأفلام والمسلسلات, فالذرة دائما ما كانت الوقت والمكان المناسبين لهذا كله. أبلع ريقي بقلق ثم أتفقد الباقين.
الجميع يبدوا عليهم الرغبة في النوم. في بداية اليوم قالوا إننا سنذهب كي نرى "الوابور الوحلان عند القيلعة".. وسخروا مني حين أعلنت عدم معرفتي التامة بهذا الحيوان الأسطوري الذي يتكلمون عنه.. فرفضت أن أذهب معهم.
العجيب أنهم على الرغم من أنهم جميعاً كانوا أصدقائي طيلة سنين الجامعة, إلا أنني أحسست بأنني لم ألقهم ولم أعرفهم من قبل. فأنا منذ بداية اليوم لم أشعر براحة كبيرة حين رأيتهم وهم يرتدون تلك الثياب القروية. حين كنا في الجامعة كنت أراهم ببناطيل وقمصان كتلك التي ألبسها. لكنني اليوم أراهم كما لو كانوا أشخاصاً آخرين, حتى حديثهم بدا غريباً على أذني وتصرفاتهم بدت مختلفة.
نظرت نحو سليم وسألته عن معنى ذلك المصطلح الغريب الذي ذكروه لي في الصباح. كنت أحاول تجميع الكلمات كأنما أتذكرها وأجمعها في الهواء: "الوابور.. الوحلان.. عند القيلعة"
استيقظ ناصر على سؤالي, وخرجت منهم جميعاً كلمات سخرية لم تنقطع, فكانوا يشيرون إلي على أنني كائن جاء من المريخ أو سائح من أوروبا, ثم بعد أن هدأت عاصفة الضحك أخبروني بأن الوابور هو ما أطلق عليه أنا مركباً, وهو وحلان لأنه منغرس في الوحل, وهو عند القيلعة تلك الأرض المرتفعة من النيل الذي يشق قريتنا. كان هذا درساً يصعب على أمثالي فهمه.
الحقيقة أن كل شيء هنا معقد جداً بالنسبة لي. فأنا مثلاً لا أعلم لماذا لا تريدني جدتي أن أصادق سليم وناصر وأحمد. حين علمت أنني سأبيت معهم كانت ستموت من وقع الخبر, وقالت لي بينما تجز على أسنانها:
"انت اتصاحبت على ولاد بيت موسى كلهم!!"
أحمد يقول إن بيت موسى هذا والذي ينتمي إليه كان قد قتل من عائلتنا شاباً في عصر ما قبل الأسرات وأن جدتي مازال صدرها موغوراً عليهم. ربما تضايقت لهذا السبب إذاً. لكن مالي أنا وهذه العادات البالية.. وما الذي يقحمني في توابع ثأر تنازلت عنه عائلتنا منذ عقود؟
مر الليل بطيئاً ومرعباً. تبادلوا حكاية الكثير من الحكايات عن هذا الوابور الوحلان, شيء وحيد رسخ بذهني بعد أن انتهوا, فقد أدركت بما لا يدع مجالاً للشك أنني مختلف جداً عنهم وأنني لا أنتمي إلى هنا. فالوابور الذي يتحدثون عنه هو بيت الرعب. يتناقل الفلاحون أنه مسكون وأن من يقترب منه لابد وأن يأكله الورن, تلك السحلية/التمساح التي هربت من عصر الديناصورات, كي تعيش بسلام في قريتنا. كان الليل طويلاً, وبدا أنهم يستمتعون بشعور الرعب الذي أشعر به, فأخذوا يحكون الكثير من الحكايات المرعبة عن قتلى جرفهم التيار وعلقت جثثهم في هذا الجزء المرتفع من قاع النهر. ما قالوه جعلني أوقن أنني لن أتكيف في هذه البيئة أبداً. فأنا النيل يعني لي شيئاً مختلفاً عن هذا بكثير, فالنيل بالنسبة لي هو المكان المناسب لقول الكلام الناعم وتشبيك الأيدي, والتمشية على طول الكورنيش مع أي فتاة يلقيها القدر في طريقي.
سامحك الله يا أبي.. ماذا فعلت كي تعاقبني كل هذا العقاب وتفكر في أن تزوجني من هناء؟ من المؤكد أنها مثلهم, توقظ النائمين برصاص البنادق, وتشرب ماء السحالي الذي يدعونه شاي الدمسة.
كان الحديث معهم يجلب علي المزيد من الخوف. لذا فكرت أن علي أن أصمت وأن أستلقي على ظهري وأتأمل ما حولي فقط. نظرت إلى السماء التي لم أكن أعرف أنها تحمل كل هذا العدد من النجوم قبل هذا اليوم. ففي وسط الأضواء المتوهجة بشوارع المدينة والمباني الشاهقة العلو لا يمكن للمرء أبداً أن يرى هذا المنظر. الآن فقط فهمت لم قالت لي سوسن –ابنة الجيران ذات الشفتين الملتهبتين- إني "كداب" حين قلت لها إني أعد النجوم بالليل من فرط حبي لها. أين أنت يا سوسن؟ لو كنت هنا لأنقذني حضنك الدافئ من وحشة هذه الأدغال, لكن ماذا أقول؟ سامحك الله يا من في بالي.
في المرة السابقة, حين أتت هناء عندنا منذ أكثر من أربع سنوات, رأتها سوسن وهي تمشي معي. أمرني أبي أن أذهب معها وأوصلها حتى تركب عائدة إلى البلد. في اليوم التالي حين قابلت سوسن في بئر السلم شبعت سخرية مني وقالت إن هناء تليق بي وإنها "حاجة أوريجينال خالص". كنت أمشي مع هناء وأنا أشعر بحرج شديد, فالفستان الأحمر المليء بالزهور الصفراء الكبيرة الذي كانت ترتديه لا تلبسه سوى الخادمات في حينا. ناهيك عن هذا المنديل المضحك الذي تربط به شعرها. كنت مذعوراً وأنا أمشي بجوارها حتى أنني كنت أسبقها بخطوة كي لا يعرف الناس أنها معي, أو يراني أحد من أصدقائي فيخبر بقية الشلة. والآن يريد أبي أن أتزوجها.. أي عقاب هذا الذي تعاقبني به يا أبي؟!
قام سليم وثبت يده كي تكون على ارتفاع قامة إنسان متوسط الطول, ثم أطلق مسدسه. خفق قلبي بشدة ولزمت مكاني على الأرض خوفاً من أن يرد الفريق الآخر علينا في أي وقت. بقيت هكذا حتى طلع الصباح, فاستأذنتهم ومشيت. الطريق إلى بيت جدتي الذي يتوسط الحقول طريق طويل جداً يذكرني "بالطريق القديمة" التي تأتي في كل المسلسلات التي تتحدث عن أدغال الصعيد. أمشي بين الزرع وأستعيذ بالله من شر خلقه من الغربان, والكلاب, وتلك الأشياء التي لا أراها والتي لابد وأنها موجودة في مكان ما حولي.
حين وصلت إلى البيت رأيتها. كانت هناء واقفة تحمل إناء الحليب الذي تحضره كل يوم لجدتي. حين رأتني تهلل وجهها المستدير المشرق, وتركت إناء اللبن ثم أتت تجري نحوي. لاحظت أن الورود الصفراء الفاقعة التي على فستانها تليق بشدة على اللون الأخضر الذي اكتست به الحقول من حولنا. كانت سعيدة جدا برؤيتي.. وكانت تجري بسرعة نحوي حتى أن منديلها سقط على الأرض دون أن تشعر به وتناثرت خصلات شعرها الطويل في الهواء, بينما كان صدرها الممتلئ يهتز بقوة.
وقفت منبهراً بجمالها الذي رأيته كأني أراه لأول مرة, وأيقنت أني قد ظلمت أبي.. ألا سامحني الله يا أبي. سامحني الله.
كتبها عمرو الساعة 2:51 ص 42 تعليقات
سبتمبر 07، 2009
هدية من أجل عيون حبيبتي
أقف أمامها, أرقبها وهي تفتح الهدية وأنتظر في أدب كطفل صغير ينتظر “المعلوم” من أمه في صباح العيد.. سرعان ما تأتيني العيدية, ابتسامة مستحقة من شفتيها يصحبها تضييق في العينين محسوب بدقة..
تنتهي الابتسامة فتنتهي نشوتي, وتعجبني اللعبة. في المرة القادمة سأشتري لها هدية أفضل وستبتسم ابتسامة أطول.. لكن ترى ماذا ستكون الهدية؟
هذا ليس بالأمر الصعب, ولا يستلزم تفكيراً طويلاً.. سأشتري لها نظارة جديدة. فهذا الحاجز الزجاجي الذي تضعه على عينيها كي ترى العالم من خلاله, هذا الحاجز الذي يستند على إطار حديدي يخفي عني نصف وجهها, ما هو إلا جدار وضعته كي يفصل بيني وبينها, ويمنع عيني من الوصول إلى عينيها, ويمنع صورتي من الانعكاس على جانب كبير من وجهها. تقول إنها ترى من خلاله التفاصيل بدقة أكبر, وأعلم أنا أنه يفوت عليها رؤية تفصيلة كبيرة. تحتاج حبيبتي إلى نظارة جديدة بلا عدسات وبلا إطار.
كتبها عمرو الساعة 11:35 ص 41 تعليقات
سبتمبر 06، 2009
فضيحة
خرجت من فمها شهقة ذعر حين أدارت يدها مقبض الباب. بدا واضحاً أن المقبض يتحرك لكن لسان القفل ثابت في مكانه. كان صدري لا يزال يعلو ويهبط بينما كانت أطرافي كلها تهتز وجسمي يرتعش. قمت من مكاني وأدرت المقبض متوقعاً منه أن يعود إلى العمل. أخرجت سلسلة مفاتيحي وحاولت بيدي المرتعشة أن أدفع اللسان لكن هذا لم يفلح. كنت أعلم أن صحتي لم تعد كما كانت إلا أنني جذبت الباب بكل ما عندي..
أنفاسها بدأت تتزايد وتخرج معها شهقات صغيرة. صرخت بصوت منخفض..
- اتحبسنا؟! يا فضيحتي.. يا فضيحتي.
ثم انخرطت في نوبة هيستيرية من البكاء, اندفعَت معها نحوي ووضعت يدها على يدي كي تساعدني في جذب الباب. كانت لا تزال فتية, جذبت بقوة فانخلع المقبض, وانهمرت من عينيها الدموع, ومن فمها نحيب حاد مرتفع.
صرخت أنا في وجهها وصفعتها صفعة واهنة مثلي, فارتمت على قدمي وهي تستجير بي مني, ثم رددت في حسرة:
- قلت لك بلاش يا باشا.. يا باشا بلاش.. أروح فين من الفضيحة دلوقتي.
أخذت تلطم خديها بشكل متكرر وتصرخ, فضربتها مرة أخرى, ثم أمرتها أن تصمت وإلا فسوف أرسلها هي وأهلها خلف الشمس. لم تكن تستطيع أن تخالفني, فهي تعرف ما الذي سأفعله. لذا كتمت بكاءها وجلست على بلاط الحمام. ضمت قدميها إلى صدرها, ونظرت نحوي في هلع.
وقفت أنا أنظر إلى شعري الأبيض في المرآة, والوجه الذي لم يعد يشبهني. وضعت يدي على جيبي باحثاً عن المحمول. فتشت جيبي الآخر, ثم تذكرت أنني تركته في مكتبي قبل أن آتي معها إلى هنا. منذ متى وأنا أترك هاتفي؟ ضربت بقبضتي على الحوض وقد بدأ الضيق يتسلل إلي.
لم أعتد أن أفقد أعصابي في مثل هذه الظروف لكن هذه المرة تبدو أكثر صعوبة من أي مرة. فالساعة متأخرة وكل من بالشركة غادروها. لا يوجد سوى هذا الحارس الجديد الذي لم يتجاوز بالشركة سوى بضعة أيام. كيف أطلب منه أن يخرجني من هنا وأضمن أن يصمت؟ هيئته القروية تدل على أنه فلاح من النوع الخام, حين يراها معي سيدب الدم في عروقه وسينسكب لسانه بكلام عن العرض والشرف وتلك الخرافات.
ضايقني إحساسي العجز.. هل يأتي اليوم وأتوسل فيه لأبله يحرس شركتي ؟ وضعت يدي على الحوض, ثم أخذت نفساً عميقاً في محاولة مني لاستعادة ثباتي الأول. فكرت بعمق ثم قررت أنني سأستأجر من يقتله إن تفوه بكلمة. هم لن يشكوا في على أي حال, وستنتهي التحقيقات إلى لاشيء. هم لن يستطيعوا حتى مجرد استجوابي أنا الذي أتمتع بالحصانة.
مشيت إلى الشباك, وندهت بصوت مرتفع:
- يا ثابت.. يا ثابت. انت يا حيوان.
كررت ندائي أكثر من مرة لكنه لم يرد. ذلك الحمار ترك البوابة ومشى. ربما اطمئن إلى أن غداً عيد الثورة والجميع في إجازة ولن يتمم عليه أحد, فقرر أن يذهب إلى بيته ويغط في النوم مع زوجته بينما أدفع أنا راتبه. هذا الحيوان القروي الساذج, سأفصله وأضرب أهله بحذائي القديم حين أخرج من هنا.
ركلت الأرض بعنف, ثم أدرت نظري نحوها.
كان جسدها ينتفض بين الحين والآخر وتخرج منها أنة لاهفة. نظرت إليها مندهشاً. لاحظت أنها تبكي وكأنما فعلنا ما لم يفعل. هل تريد ابنة العاهرة أن تلصق بي تهمة؟ هل ستخرج من هنا وتتعمد إحداث فضيحة لنفسها حتى تضغط علي وتتزوجني أو تحصل مني على تعويض كبير؟ هذا أبعد عنها من نجوم السماء, خاصة بعد أن انقضت أيام الشباب فعجزت وصرت مثل أختها الكبيرة.
أدير نظري عنها وأعود مرة أخرى إلى ذلك الذي ينظر إلي من المرآة. أتأمل فيه, ولا أستطيع الهرب من أسئلة مرسومة على وجهه: لماذا تتحرش بفتاة صغيرة بعد كل هذا العمر؟ لماذا تجبرها على أن تفعل شيئاً كهذا؟
يقتم وجهي. نحن لم نفعل أي شيء سوى القليل من التعري والقبل. أنت تعرف, هي شهوة الجنس التي تظل داخل الرجل حتى بعد أن يشيخ, وتبقى مستعرة بعد أن يعجز ويموت.
أطرق برأسي, ربما ينبغي أن أصدق مع نفسي ولو لمرة واحدة. الأمر ليس كذلك بكل تأكيد. أي شهوة تجعلني أقهر هذه المسكينة؟ وأي شهوة تلك التي تتحدث عنها يا عمر بعد أن تحطم قلبك وانكسر؟ أي شهوة تجدها, وأي متعة في الحياة بعدها يا عمر؟
حسناً, ربما هذا هو السبب فمنذ المرة الأولى التي رأيت فيها أمل عاملة البوفيه وأنا أرى في وجهها وجه سارة. ذلك الوجه الذي طالما بحثت عنه في وجه زوجتي قبل أن أطلقها وأتخلص منها. تمنعت أمل في البداية لكنني أجبرتها, لم أكن لأترك ذلك الوجه الملائكي يهجرني مرة أخرى.
أجلس على كرسي الحمام وأضع رأسي بين يدي. "من يا ترى فاز بك يا سارة؟ وهل مازلت جميلة كما كنت دائماً؟" ربما لو وافق أبوك على خطبتنا لتغير كل شيء, لكن الأبله أصر على ألا يزوج ابنته لخريج السجون, ووقفت أنت تنظرين ولا تتكلمي.
لكن لماذا لم تكن لديك الشجاعة الكافية كي تخبريه بأنك أنت السبب؟ لماذا سكت يا سارة؟ كنت دائماً ما تتكلمين عن مبادئ الثورة والديمقراطية وعن حكم الشعب للشعب, كنت تقولين أن الثوار لابد وأن يتحولوا لقياصرة إن لم يكبحهم شعبهم, وترددين أن ثورة العسكر في مصر تحولت إلى ملكية جديدة بعد ناصر, وأنا اقتنعت, ورضعت كلامك ومبادئك, ودخلت السجن وأنا أظن نفسي من الأبطال, وأني بهذا سأعجبك وسأقترب منك أكثر.
لماذا تخليت عني يا سارة؟ ألم تملئي رأسي بتلك الخرافات فجرينا في الشوارع نهتف في المظاهرات أن نعم للحرية ولتحرير المعتقلين. ألم أهتف معك أن كل الهم همنا وكل القضايا قضايانا؟ ألم نهتف من أجل الاستقلال في إفريقيا ومن أجل الثوار في الجزائر؟ فلماذا حين احتجت إلى فصاحتك سكت ولم تتكلمي؟
عادت أمل إلى النحيب مرة أخرى ولكن بصوت منخفض. ربما أشعرها صمتي بعجزي عن فعل أي شيء, فخافت أكثر, لذا عادت تكرر:
- ما قلت لك بلاش يا باشا.. يا فضيحتي, يا فضيحتي.
نظرت إليها ولم أنهرها هذه المرة. أنا أيضاً كنت أخاف من الفضيحة ذات يوم, وتوسلت للطبيب ألا يخبر أبي. حاولت في البداية أن أقنعه بأنني أعاني من البواسير, لكن الدماء كانت قليلة بعض الشيء بالإضافة إلى أنه لاحظ الكدمات التي على وجهي. لم يستمر كثيراً في سماعي وإنما وضع إصبعه الغليظ في مؤخرتي فصرخت. كان يعلم أن الدماء المتجلطة في ملابسي إنما أتت من آثار التعذيب.. قلت له الحقيقة فكتم السر.
كتم الطبيب السر يا سارة وتفهم حالي, بينما أعطيتني أنت ظهرك ولم تتفهمي.
حسناً ها أنت تخدع نفسك مرة أخرى, من قال هذا الهراء. الطبيب لم يكن ليتكلم على أي حال, هو لن يرغب في الحديث عن شيء كهذا ولن يتورط فيه. وسارة لم تتخل عنك, ربما تخليت أنت عنها حين اختفيت بعد خروجك من المعتقل لأكثر من عام ثم عدت بذقن طويلة. ذقن غطت حتى منتصف صدرك لكنها فشلت في أن تغطي ذلك الشرخ الذي تركه الضابط في فتحة مؤخرتك التي مازلت ملتهبة.
كنت وقتها قد قررت أن البلد بلادنا بالقوة, وأن الحاكم طاغية. أكان عليها أن تذهب معك وأنت لم تعد أنت؟ أي وهم تخدع نفسك اليوم به.
ثم حين اعتقلت للمرة الثانية, أكان ينبغي عليها أن تترهبن حتى تعود؟ وهل عدت كما كنت يا عمر؟ أم عاد مكانك ذلك الأفاق الحليق يمشي بين الناس ويؤيد العسكر ويهتف باسم الثورة المجيدة, ثورة القياصرة؟
ألم تكن أنت من استخدم السياسة لصالحه فربح الرضا والمال, وأقام مشاريعاً تشير لها الناس بالبنان؟ ألم تكن أنت من خدع الفلاحين والعمال حتى جروا خلفك هاتفين بحياة الباشا عضو المجلس المرتقب؟ وحين وقفت تحت القبة ألم تتنكر لما قلته وجريت كي تنضم إلى الحزب؟
ها قد اغتصبت حقك من البلد, فلماذا تشعر إلى الآن بكل هذا السخط؟ ربما لو كانت معك ما فعلت هذا كله, وما وصلت إلى ما أنت فيه. ها قد خسرتها وكسبت أموالاً كثيرة وأصبحت من ذوي النفوذ فلماذا لا ترضى؟ لا تكرر ثانية ذلك الكلام الساذج عن أنك كنت تحب وأنها كانت النيل والأرض والقمر؟ كفاك ما حدث.. كفاك يا عمر.
تقف أمل وقد أيقنت أن ليس لي من الأمر شيء, أخرجت رأسها من الشباك وبدأت تنادي على ثابت بصوتها الحاد ثم عادت إلى الباب, وضعت يدها تحت عقبه وأخذت تشده لكن شيئاً لم يحدث.
انتبهت إلى أن الليل قد حل وبدأ الظلام يغزو المكان. فوجئت بأن مفتاح النور لم يكن داخل الحمام, فأخذت ألعن أم مهندس الديكور الغبي وأهل ذلك الكهربائي الحمار. ثم نظرت من شباك الحمام, فإذا في الخارج سماء وبدر ونجوم.
لم أكن قد رأيت هذه الأشياء منذ سنين, ولم أكن حتى أتذكر أنها مازالت موجودة.
ترتعد أمل وتستعيذ بالله مع تمام العتمة, ثم لا تجد أمامها سوى أن تقف إلى جواري في تلك البقعة التي يضيئها البدر. وقفت إلى جواري فصرنا كبطلين في مسرحية يسلط عليهما الضوء فلا يريا من الكون سوى وجهيهما. وكم أحب وجهك يا أمل, كم يذكرني بها لولا ذلك الخوف الذي لم أره مرة عليها.
أتحول تجاهها وأسألها عن سبب خوفها فتخبرتني أنها خائفة من كل شيء, من أهلها حين ستعود إليهم, ومني, ومن هذا المكان النجس الذي يسكنه الشيطان.
ضحكت حين ذكرت خوفها من أن يتلبسها شيطان وهي واقفة معي.. هل يعرف الشيطان نصف ما أعرفه, وهل رأى نصف ما رأيته أو ارتكب نصف ما ارتكبت؟
أنظر إليها وأتمنى لو أحيطها بذراعي بصدق ولمرة واحدة, فأقبلها وتشعر بين يدي بالأمان, ثم تعطيني نفسها عن رغبة لا عن خوف. مرة واحدة أتمتع بها دون إجبار وعنف يا أمل.. مرة واحدة يا وجه سارة المشرق الأبي.
إلا أنني غيرت ملامح وجهي على الفور كي تصير أكثر جدية وقسوة, لم أحتضنها وإنما سخرت منها وأخبرتها بأننا سنخرج من هنا كما تخرج الشعرة من العجين, وأن عليها أن تلتزم الصمت فلا تخبر أحداً بما حدث, وإلا فهي تعلم ما سيكون.
ترى ما الذي سيكون؟ وكيف سأخرج من هنا وعلى أي فضيحة. من المؤكد أن أهل الفتاة سيأتون للسؤال عنها, فإن استطاعوا أن يحضروا ثابتاً ويأتون به لهنا فسينكشف كل شيء. المصيبة الأكبر ألا يأتوا, فعندها سيكتشف أمري الموظفون في صباح بعد غد. سيرون صاحب الأخلاق والفضيلة متلبساً, وستخرج الصحف لتعلن أن رجل الأعمال الشهير والسياسي المحنك ضبط في الحمام مع فتاة البوفيه بينما كان يطارحها الغرام.
أعود للجلوس مرة أخرى على كرسي الحمام. أحاول أن أبعد نفسي عن التفكير فيما سيحدث. لو كان معي هاتفي المحمول ما كان حدث كل هذا. لابد وأن بطاريته قد نفذت الآن من كثرة الاتصالات, فغداً موعد الخطاب الذي سألقيه بمناسبة الثورة, ولابد أنهم يريدون أن يطمئنوا إلى أنني سأحضر. ينتظر الحزب مني أن أمثل وأحكي حكايتي كرجل أعمال عصامي وسياسي بدأ من الصفر. وبالطبع سأحكي الحكاية كما يأتي على هواهم, فأكون للناس مثالاً حياً على الديمقراطية والعدالة التي تشمل كل الفئات. ترى هل سأذهب حقاً, أم سأقضي عيد الثورة المجيدة في الحمام, ثم أخرج منه كفأر مبلول داخ بعدما قضى يومين بلا طعام في المصيدة؟ اللعنة على ذلك الحمار الذي يدعى ثابت, سأقتله حين أخرج من هنا.
يقطع تفكيري صوت أقدام تمشي بالخارج.. أدب بيدي على الباب بشكل لاهث..
- يا ثابت.. يا ثابت.
تقترب الأقدام أكثر, ثم يأتيني صوت رشاد.
- انت هنا يا عمر بيه؟ ده أنا كسرت محمولك من كتر الاتصال, ولما ما رديتش قلت أشوفك في المكتب.
كانت فرحتي بمجيء رشاد كبيرة جداً, ألم أقل لك يا أمل إننا سنخرج منها. رشاد هو ساعدي الأيمن وأكثر من يكتم أسراري, وأول من أتوقع له أن يصل. هذا الولد هو تميمة حظي.
- رشاد هات حاجة افتح بيها الباب بس من غير دوشة كتير.
أخرجت لأمل ما فيه النصيب وركبت السيارة إلى جانبه. بدت على خده ابتسامة ماكرة.. أخبرته أن لم يحدث شيء في الحمام وأنه لا ينبغي أن يفسر ما رأى بنية غير سليمة, ثم اطمأننت كثيراً حين قال إنه لم ير أي شيء وإنه إن كان حدث بالحمام شيء فهذه هي الصورة الطبيعية والمأمولة لتفاعل القيادات مع قوى الشعب الكادحة.
كتبها عمرو الساعة 2:22 م 43 تعليقات
سبتمبر 05، 2009
حادث سعيد مروع
أفقت بعد أن غمر عطرها المركز أنفي, فتحت عيني فرأيت وجهها الصبوح اليانع ينظر مبتسماً. أغمضت عيني مقنعاً نفسي بأنني أحلم, فنثرت علي من زجاجة عطرها مرة أخرى.. انتبهت فإذا رأسي على فخذها, وأناملها تطرق على خدي, أنا الذي كنت أحلم طول العمر أن تعبر الطريق من أمامي مصادفة, فأقول لها منتشياً "صباح الخير"..
حملت رأسي بكفيها ثم ساعدتني على النهوض, وذبت أنا في "ألف سلامتها" التي لم تكن كأي "ألف سلامة" سمعتها من قبل. وضعت يدي عند ذلك الموضع المؤلم من رأسي.. فزعت حين رأيت بقعة كبيرة من الدم على قميصي.
ضحكت في دلال ثم نصحتني أن أنظر في المرة القادمة إلى درجات السلم وأركز فيها جيداً. شعرت أنا بخجل مؤقت. لابد وأنها تعلم أنها أجمل من أن أمنع عيني عنها, وأنها متمكنة مني. ستبدأ الآن في معاملتي كما تعامل القطة الفأر وقت الشبع, فتلهو وتتدلل ثم تنصرف فجأة وبلا سبب.
تخدرت وتجمدت في مكاني حين رفعت يدها ووضعتها على رأسي المجروح, الذي تدفقت الدماء نحوه على الفور. فكرت أنه من الأفضل أن أنسحب قبل أن تفعلها هي, يكفيني ما حدث على أي حال, فقد انكشف السر ولن أعرف أن أرفع عيني في عينيها مرة أخرى.
نظرت إليها في خجل, وشكرتها على تضميدها للجرح, ثم خطوت منصرفاً. لكنني ما أن استأنفت صعود السلم حتى وجدتني أتحول ناحيتها وأخبرها بأنني سأقع هنا غداً في نفس الموعد وأن رأسي سترتطم على نفس الدرج.
كتبها عمرو الساعة 6:37 ص 54 تعليقات
سبتمبر 04، 2009
من التاريخ السري لعمرو السيد (3)
العصي الغليظة تنهال علينا من كل جانب. أقارب الرجل خرجوا من الحقول ومعهم أقفاص معدة لتشوين الفاكهة وألبسونا الأقفاص التي كانت تخدش الجلد وتترك به عاهات مستديمة.. تحول العيد إلى معركة, وتحولت الرحلة إلى مجزرة كتلك التي أراها في الأخبار حين ينقلون صوراً من فلسطين المحتلة..
ربما علينا أن نعود بالشريط إلى الخلف قليلاً.. كنت أغني قائلاً: "لله يا جزاير يا وردة الروح.." وكان أصدقائي يغنون معي, فاليوم هو اليوم الأول من أيام عيد الأضحى, وقد اقترح أحد الأصدقاء (منه لله بقى) الذهاب إلى مزرعة جزيرة شندويل لقضاء اليوم وإقامة حفل شواء معتبر. كان علينا أن نمشي طريقاً طويلاً حتى نصل إلى المزرعة التي تبعد عدة كيلومترات عن الطريق. على الجانبين كانت أشجار اليوسفي تحيط بنا والجو كان صحواً ومثيراً للبهجة.
لكن يبدو أن الأغنية كانت ثورية قليلاً, أو أن نبرة صوتي الفيروزية (أنا الذي كنت دائماً ما أغني في كورال الأطفال في النادي الاجتماعي المجاور لنا) لم تعجب أحدهم. إذ جاء صوت غرابي النغمة من العدم ليقول..
- "وطوا صوتكم يا ولاد الكلب".
لم يقبل صديقي هذه الإهانة, وأطلق حنجرته مهدداً الرجل الذي لم نكن نراه بأن عليه أن يخرج ويريه نفسه إن كان يظن في نفسه ما يكفي من الرجولة. خرج الأخير وليته ما خرج. في البداية كنت أعتقد أن هذا هو طوله الطبيعي ثم لاحظت أنه يرتقي بعض سلالم طينية من الحقل الذي كان فيه, صاعداً إلى الطريق.. في لحظات كان أمامنا بشحمه ولحمه.. سد بشري كبير متحرك وفي يده "شومة" من النوع الأصلي المعتبر. لم يكن الرجل بحاجة إلى أن يتكلم ويزود عن رجولته التي كانت واضحة في كل شيء لا سيما ذلك الشنب العنقودي المتشعب. لم يكن بحاجة إلى أن يزود عن رجولته إلا أنه فعل.
كان معنا الكثير من الأطفال, وصندوق من زجاجات المياه الغازية فضلنا أن نبعدهم جانباً, وبدأت المعركة التي كانت متكافئة من جميع الجوانب ولم نخرج منها بأي إصابات.. إلا إذا كنا سنعتبر تلك الجروح والكدمات والرضوض التي انتشرت في وجوه وأجساد أغلبنا إصابات. لا أعلم حتى الآن هل كان الرجل بمفرده وأتى الفلاحون الذين ضربونا من الحقول المجاورة, أم أن الرجل نفسه تكاثر ذاتياً فأخرج أجيالاً من الفلاحين تضرب بكل شيء يمكن الضرب به دون حتى أن يسألوا أنفسهم عن السبب.
عدنا من حيث أتينا, وصورة واحدة في عقلي. صورة جدي الباشا قبل الثورة وهو يصطاد الفلاحين بدلاً من العصافير والغزلان. لعنت ثورة العسكر, تلك التي تسببت في ضياع مجد جدو الباشا, وتدهور الحال بنا إلى هذا الحد.
في قسم الشرطة, لم يرغب الصول في فتح المحضر. قال إنه لا يوجد بالقسم ورق فلوسكاب. أحضرنا له القلم والورق وأمسكنا بتلابيبه حتى فتح المحضر. الخطـأ لم يكن خطأ الصول على أي حال, إنما خطأ طه حسين الذي قال أن التعليم كالماء والهواء حتى تعلم أولاد الرعاع. أي والله.
كان من الواضح أن علاقة ما تربط بين الصول والوحش الذي اعتدى علينا, بعد ساعات وصل الضابط الذي كان لحسن الحظ والد أحد أصدقائي, وذهب معنا إلى موقع الجريمة وتم تظبيط الأمور. رجعت إلى البيت في تمام الثانية صباحاً, وقد انتهى اليوم الأول من العيد داخل مركز الشرطة.
الغريب هو ما حدث بعد هذه الحادثة, فبعدد أصدقائي كانت هناك حكايات تحكى داخل البيوت وكل منها مختلفة عن الأخرى, إلى درجة أن أحدهم كان يحكي لأبيه أنه هو الوحيد الذي ضرب وهاجم واستخدم الطائرات إف 16 لقصف مزارع البرتقال وتطهيرها من الفلاحين الخونة.
وطبعاً لأن الإنسان يعيش بمرارة واحدة كما يقول صديقي الشمسي فقد تبارينا أنا وأحمد في تحوير كلمات الأغاني للسخرية مما حدث.. أحفظ الآن بعض الكلمات التي كتبها أحمد وسأتحفكم ببعضها:
(على لحن أغنية محمد منير, نعناع الجنينة)
في يوم الجزيرة وجف وحده بثبات,
كلنا رجعنا ورا..
ما هو أصل الناس مجامات.
واحد مسكله جفص وإداله بيه ضربات
ضربة واتنين تلاتة وأربع خمس ضربات
صاحبنا جال عمي عميد وجرايبي ناس لواءات
واللي هايكلمني كلمة هادخله في متاهات
الراجل ساب الجفص وجال يا بيه سلامات
سلام واتنين تلاتة وأربع خمس سلامات
وفي أغنية أخرى..
الهيرو راح يحكي لابوه..
ويقول له أصحابه سابوه.
الهيرو, ملك جبار..
وغيره, جبان وحمار
وغير ذلك الكثير إلا أن الذاكرة لا تسعفني الآن بعدما تقدم بي العمر. أضحك كلما تذكرت هذا العيد, وأحن لتلك الأيام التي كنا نضحك فيها من القلب, وكنا نحول حتى اللحظات المؤلمة إلى شيء نسخر منه ونضحك عليه.
كتبها عمرو الساعة 1:50 م 27 تعليقات
سبتمبر 03، 2009
Brain Storms
The noted psychoanalyst Erick From once remarked that it's important not to jump too hastily to the conclusion that you're mentally ill, when indeed it may be the society around you that is ill. However, I came these days to realize that the question is a question of WHEN not of WHo. d
Sooner or later, those whose ideas and ambitions contradict or at least conflict with the norms and discipiline of their society will lose the power of the jellied mix in their craniums and will eventually go mad. We all have seen those poised high achievers at school who just lost their control over things and turned into a pitiful pile of complexes.d
Though still unable to define how, I seriously think about giving up my avidity to king-sized dreams. I know this is easier said than done. But, sometimes, ambitions should be terminated, and big stormy brains should be set to rest in peace. d
كتبها عمرو الساعة 4:03 م 28 تعليقات
سبتمبر 02، 2009
بحيرة بجع
أدخل من باب الفندق فيبدأ لحن ذو نزعة شرقية, أحاول أن أتذكر اسمه, فلا أستطيع. أنظر إلى أحمد بجواري, فيعدل من نظارته ويرد دون أن أسأل:
- بحيرة البجع... تشايكوفسكي
أقف جامداً حين تأتين من الطرف الآخر للبهو. تمشين كحياة تدب في جسد المكان, تتحرك قدماك الناعمتان بصمت ووقار داخل فستانك الداكن المختلف, ومن خلف كتفيه أراك وأنت تضحكين بين صديقاتك. تنشرين المرح بينهن لكن أهدابك تفشل في إخفاء الحزن الكامن في العينين. تلتقي عينانا فنبعدهما سريعاً, بينما يتهادى صوت الكمان لينسجم مع اللحظة.
تقتربين, فيقترب قلبانا وتتصاعد الموسيقى بفعل دخول الآلات النحاسية والأبواق, يدور وجهانا نصف دورة مع اقترابك مني ثم ابتعادك. تهدأ الموسيقى وتستقر على صوت الكمان الناعس فتتشابك العينان ويصبح إفلاتهما أمراً شاقاً علينا.
يلكزني أحمد, فأخبره بأنك أنت, وأنني وصلت في بداية اللحن لكنني وصلت متأخراً, أو أن "روكفورد" ذلك الفاسد العابث هو من أتى مبكراً جداً فأصابك بشره.
يستعوض صديقي الله في عقلي, بينما أحول أنا وجهي ناحيتك وأرشف من بسمتك, ثم أنسحب استعداداً للرقصة التالية.
كتبها عمرو الساعة 1:23 م 26 تعليقات
سبتمبر 01، 2009
القصة بين البساطة والاستغلاق
كتبت هذا المقال منذ ما يزيد على خمس سنوات ونشر لي في مجلة ورشة الإبداع. اليوم أنا أعيد نشره على الرغم من اختلاف نظرتي نحو القصة وعدم اتفاقي الحالي مع بعض ما جاء به. والحقيقة أنني لم أكتبه وحدي, لكن شارك معي في التفكير والصياغة أحمد الشمسي. ربما لم تأت الفرصة كي أشكر أحمد على صنيعه هذا, وعلى المقال الذي شارك فيه ونشر في النهاية باسمي. أحمد وحده سيقرأ هذا المقال ويتذكر أياماً وأحداثاً خاصة بنا.. بنا فقط, وهذه التدوينة مهداة له.
***
تميل التجارب القصصية الجديدة إلى الإبحار نحو الإبداع.. أو على الأقل نحو الجديد، لكن ما لا يراه البعض أن هذا الجديد قد يأخذنا بعيداً بعيداً حيث لا مكان للإمتاع الذي هو لب العمل الأدبي. فبين البساطة والاستغلاق يضيع ذلك الأخير وإذا أضفنا إلى ذلك تجنس القصة القصيرة بالأجناس الأدبية المختلفة، وتجردها من أركانها الأساسية نجد أن معالم هذا الفن تضيع أو على الأقل تخفت. ويأخذنا الإبداع الجديد – أو فلنقل الجديد – بعيدا عن الفن !
ومن أجل هذا الجديد قرر كتاب القصة التخلي عن عمق الحبكة وعن الصراع وعن الذروة وغيرها من الركائز لصالح "الومْضية"، فأنتج هذا ما يدعى "اللوحة القصصية" والتي يرى أنصارها أن القصة ما هي إلا صورة فوتوغرافية تصور منظرا لا حدثا.. وبهذا تهتم هذه الصورة بنقل الواقع كما هو ويصير الكاتب مجرد مراقب للوضع من بعيد... ليس له وجهة نظر أو فكر يود أن ينقله بخلاف ما يحمله "المنظر".
وربما يظهر كل هذا في نص القاص "وائل وجدي" (تداعيات):
طفل، يأكل شوكولاته بفرحة غامرة...
طفل يقضم كسرة خبز –جاف- ويتأوه من شدة البرد القارس...
طفل، يروي الأرض بدمائه الذكية...
...وعصفور، يطير من محبسه محلقا.......في المدى الوسيع...
من الواضح أن هذه القصص الومضية هي إبحار نحو اللافن وبالتالي نحو اللامتعة حيث تتسم هذه القصص الفوتوغرافية بتصوير لقطة من الحياة اليومية للناس وإضفاء القليل من المشاعر عليها فتبدو رومانسية أحيانا كئيبة أحيانا أو تبدو حزينة في الأحيان الأخرى لكن ذلك يسلب القصة عنصرا هاما في الإبداع الأدبي ألا وهو عنصر المفارقة .. ومع بساطة اللغة يضيع كثيراً الإمتاع اللغوي .. وتستطيع أن تقول أن القصة في النهاية تأتي سطحية ذات بعد واحد أو اثنين على الأكثر كما أن عدم الالـتزام بمحدودية الزمن يوقع القارئ في هوة الوقت .
هذا عن البساطة فماذا عن الاستغلاق ؟
إن استخدام الصور المتراكبة والجمل المتقافزة والكلمات الهلامية غير ذات المعنى في كثير من الأحيان مع الإكثار من استخدام التراجع الزمني غير الممهد وغير المبرر أحياناً كل ذلك يؤدي إلى إغلاق بوابة الفهم مع احتفاظ المؤلف وحده بالمفاتيح ..!! وبهذا يصبح القارئ مشغولاً باللهاث خلف الصور والتراكيب المتقافزة فيتحول هدف القصة إلى إلقاء القارئ وسط متاهات اللافهم ,وحيث يضيع الفهم تضيع المتعة . حاول أن تتتبع المعنى في الفقرة التالية من نص القاص العراقي "جلال نعيم": (محاجر)..
لا بدّ وأن هراوته السوداء تتأرجح الآن بين أصابعه كميدالية تُغري بالعبث الطفلي على أجساد الدمى المتحركة التي يمتلك كل مفاتيحها كإله أودعَ أسرار الخلق في لحظة انفلاق القدرة واصطفاق الأكوان الهلامية التي توّجته على عرش الأجساد المعزولة الملفوظة كعلكة يابسة لصقتها طفلة بلهاء على قفا تخت المدرسة ونسيتها في حمّى فرحتها باحتشاد فوضى العطلة الصيفية الطويلة .
والاستغلاق له أيضاً أبواب أخرى ينفذ منها .. إليك مثلاً نصا للكاتب "وحيد الطويلة" بعنوان (فراشة) من مجموعته (كما يليق برجل قصير):
حينما قلت لأمي إن الفراشات التي حامت حولي وطرت وراءها تحولت إلى دبابير تقرصني, وإن قدميّ في الحلم غاصتا في المستنقع الآسن , وكدت أغرق على صوت ضحكة رجيمة لأصهاري , الذين أخذوا ملابسي معهم طعاماً لكلبتهم .
ربتت على فراشتي وحدقت في العشب الذي نما خفيفاً فوق الدرج.
فالاستغلاق في نص (وحيد الطويلة) يختلف عن سابقه في أنه اعتمد على الرموز أكثر من اعتماده على الصور والتراكيب.. ونحن – وإن فهمنا بعض أو معظم الرموز– إلا أن "الفراشات" التي هي لب القصة لا تزال غامضة!
وقد يعتمد الاستغلاق على التكثيف الشديد وحذف بعض الجمل المفتاحية مما يجعل الفهم مستحيلا.. ويظهر هذا في فن الأقصوصة الذي لا يحتاج لتوضيح.
الخلاصة... أن القصة تتوه بين البساطة والاستغلاق ويراق دم الإمتاع فيها...ويتم تشويه معالمها والـتمثيل بها عن طريق دمجها بأجناس قد لا تضيف لها بقدر ما تأخذ منها ... أليست هذه إجابة كافية لسؤال: "لماذا يحجم الناس عن القراءة؟!"....
كتبها عمرو الساعة 10:38 م 22 تعليقات
ولع جديد بالموسيقى
كبر الصغير..
الآن فقط أدركت أنه قد كبر. أنظر إليه وهو يحرك الملعقة في طبق الأرز دون أن يأكل. أسأله عن سبب تأخره بعد انتهاء العمل, فلا يبدو أنه قد سمع ما قلت.
أكرر تساؤلي, فينتبه كمن عاد بعد طول غياب, ثم يقول كلاماً غير مقنع.
تبدأ الصورة تتضح في عقلي شيئاً فشيء. أتذكر كيف أنني حين ناديته بالأمس لم يجب, وأنه أصبح يبتسم دونما سبب. ترد الأفكار إلى رأسي كأنني لم أكن أنا من رأى وسمع. ثم تظهر ملامح الانزعاج على وجهي وتلاحظها زوجتي.
أنا أعرف هذه الأعراض, أعرفها جيداً. ففي الأيام القريبة التالية سيشتري الكثير من الزهور, وسيجّد عليه ولع شديد بالموسيقى. سيرتقي قلبه المبتهج إلى عينيه, وسيصير كل ما في الدنيا مصدراً لسعادته. ثم إنها في النهاية قد ترحل عنه فتترك روحه مستعملةبالية, أو تأخذه مني, فلا يبقى في البيت سوى أنفاس واهنة لعجوزين قالا كل ما يمكن أن يقال, وأصبحا خارج اللعبة. وهو في الحالتين لن يعود إلي.
تنقل زوجتي نظرها بيني وبين ابننا الوحيد في عجب متسائلة عما دهانا.. أقوم أنا من مكاني ويقوم هو, ويدخل كل منا غرفته.
كتبها عمرو الساعة 3:36 ص 29 تعليقات