يرتجف..
يتشبث بملابسه الثقيلة بينما ينتفض جسده كله, وتردد شفتاه بصوت خافت "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"..
أوقع التقرير, وأنظر له في حيرة. تنظر ريم نحوي بابتسامة خافتة..
لم أدر هل تبتسم تعاطفاً معي كطبيب نفسي مبتدئ يواجه حالة ليست بالهينة, أم أن ابتسامتها كانت سخرية:
- أربع حالات في أقل من شهر.
ترد في عدم اكتراث:
- البلد مليانة مجانين..
اسم المريض: مجهول.
جهة التحويل: المستشفى العام
تشخيص الطبيب المختص: شيزوفرينيا (أوضاع تخشبية, وهلاوس)
الشوارع هنا هادئة, والجميع لا يعرفون الجميع.. في الأحياء الشعبية يمكنك أن تصل بسهولة أكبر لكنك هنا لن تجد من يرشدك فالكل منشغلون بشئونهم..
أوقف أحدهم, يتأمل البطاقة, ينظر إلى الصورة, ثم يلوي شفتيه ويمشي دون أن ينبس بكلمة. أوقف آخر.. نفس الشيء.
مفتاح عليه بعض الصدأ ونصف بطاقة ورقية باهتة.. هذا كل ما وجدته في جيب س4, مما يعني أنه مصاب بالمرض منذ فترة طويلة, وأنه ربما مر بكل شوارع القاهرة قبل أن تصدمه تلك السيارة فينقل للمستشفى العام.
يقول صانع المفاتيح إن هذا مفتاح لقفل شقة, بينما لا تخبرني البطاقة الباهتة بأي شيء سوى كلمات غير واضحة في خانة العنوان أظنها "مصر الجديدة", واسمه الأخير.. "محب".
الأشياء التي سلمتها لنا المستشفى العام لا يوجد بها ما يدل على هويته, غير دفتر صغير أوراقه مقطعة مصفرة, لم يبق منه سوى الصفحات الفارغة وقطعة ورق وحيدة :
يا كنيسة الرب.. قلبي قربانة بيد فتاتي, تبعثرها كل يوم فأبيت ليلتي بلا قلب..
تضحك ريم ساخرة وتقول إنني مجنون. تخبرني بأن الطبيب النفسي مريض بالضرورة, وأن س4 سيلقى مصير من سبقوه وأنني سأحل محله في المستشفى. أنظر نحوها في ضيق, الرجل مثقف, ربما وصل إلى شيء لم نصل إليه, الثلاثة السابقون كانوا مثقفين أيضاً, هذا ما يبدو من كلامهم المفكك, وغير المفهوم, ربما لو وصلت إلى بيته عرفت السبب, ربما قابلت أسرته فأخبرونا, أو ربما وصلنا إلى ما يصيب هؤلاء بنفس الأعراض ونفس المرض.
تقف, تخبرني بإنني سأحتاج إلى تجريب المفتاح في جميع أقفال مصر الجديدة حتى أجد شقة س4 وأن الأمر لا يستحق كل هذا العناء.
أنظر نحوها في اندهاش... ثم أتساءل بلا صوت: ما الذي يستحق العناء إذاً؟
في طريق العودة أشعر بأنني متعب ومحبط, تتردد في عقلي أصوات البوابين وأصحاب المحال والعابرين في الطريق وضحكات السخرية التي تنطلق بين الحين والآخر من فم ريم.
أمشي على حافة الرصيف, أفكر في عدد الأقفال الموجودة في مصر الجديدة, لابد وأن عمري سينتهي قبل أن أنتهي من تجريبها, أطأ بقدمي الحجارة البيضاء وأتخطى السوداء, أتخلص من التفكير في الأقفال بعد الحجارة, ترى أي حجارة الرصيف أكثر, البيضاء أم السوداء؟ أتخلص من التفكير في الحجارة بلمس الأعمدة والسيارات, تقترب ريم من أذني وتصرخ
- مجنووووون
أتوقف عن المشي وعن العد وعن التفكير, أشعر بالغيظ يخرج دماً ساخناً من طبلة أذني, أخرج إصبعي الأوسط لها في منتصف الطريق.
تضحك
- كوبروبراكسيا.
أنظر نحوها في غيظ.. أمسح يدي من تراب السيارات والأعمدة الذي علق بهما, فتصرخ:
- وسواس قهري.
أسبها.. وأسب الطبيعة التي تؤمن بها..
تصيح:
- كوبرولاليا
تضحك..
أبكي.
****
"انت الباشا.. انت الباشا.. انت الباشا"
لم يحاول س4 أن ينتحر كما فعل الباقون, يكتفي فقط بالسجود أو الجلوس أمام عمود الإنارة في حديقة المستشفى وترديد ترنيمته البسيطة. أو بالوقوف بشكل متخشب على هيئة صليب في العنبر. يحرك رأسه بين الحين والحين كالدراويش, ويخلط بين القرآن وكلمات غريبة لا أفهمها. ينادي دائما باسم واحد, ربما تكون فتاته التي توزع قلبه قرباناً لربها..
على الرغم من كل شيء, أشعر أحيانا بالحقد عليه فهلاوسه البصرية تجعله يرى الألوان كلها لونين, الألوان كلها بيضاء لديه ما عدا الأسود, لابد أن أسوده قليل, لابد أنه أقرب إلى الحقيقة. أما أنا فحائر بين ألوان كثيرة.
تعبر ريم الشارع وقد تغير وجهها..
- صباح الخير يا دكتورة..
ترد في ضيق:
- صباح الخير.
أضحك..
- اكتئاب صباحي
- الاكتئاب لأمثالك
يمكن للمرأة أن ترسم ألف وجه خشبي لأسباب غريبة لا يدركها الرجل, لم تكن مشاعر ريم هي شاغلي الأكبر, فأنا كنت منشغل بعد حجارة الرصيف البيضاء, ثم ملامسة السيارات والأعمدة وعد درجات السلم..
- 189
هل كان يسكن هنا؟ فوق السطوح؟
ربما يفسر هذا جملة "انت الباشا" التي يرددها طول النهار.
تطلب مني المفتاح.. ماذا لو كان أحد بالداخل؟ وما الذي يجعلها متأكدة جداً من أنه كان يسكن هنا؟
- مافيش غيره بالاسم الأخير ده في السجلات.. أشرف توفيق محب.. هنا مخ (تشير إلى رأسها).
أدق على الباب في ريبة, ثم أدير المفتاح, أندهش حين ينفتح الباب لأجد شقة مكونة من غرفتين, شقة عادية جداً, ليس بها أي شيء غريب, لا رسومات على الحوائط, ولا أي شيء من الذي أراه في أفلام الرعب.
ندخل في تردد, لا يوجد الكثير من الأثاث, فقط مكتب وسرير والكثير من الكتب, المئات منها مكومة بجانب مكتبة صغيرة لم تسع سوى القليل. أوراق مقطعة لقطع صغيرة وملقاة في كل مكان, تنحني ريم لتلتقط بعض الورق, تنظر نحوي وهي تحس بالظفر, فأدرك أنها أوراق من دفتره.
أغسل يدي كثيراً رغم أن ريم هي من نظفت المكتب, تجلس إلى جانبي, نجمّع قطع الورق.. لا نصل إلى أي شيء, الكثير من القطع الممزقة أمامنا والاحتمالات لا متناهية, يمر الوقت بنا, ربما ساعات قبل أن تقوم من مكانها, أقوم معها.. تقلب الكتب, تتعجب من أنه كان يقرأ في كل شيء, وأخبرها بأن تخميني كان صحيحاً حين قلت إنه مثقف.
يخرج فأر من بين الكتب فتصاب ريم بالرعب, تنتفض ثم تختبئ في صدري.. أحتضنها بيدي, ننسى ما كنا نبحث عنه, نتحول في لحظة واحدة إلى رجل وامرأة لا يهمهما البحث عن الحقيقة كثيراً, تحتضنني بيديها فأقبل رأسها.. نقف طويلاً هكذا, أستمتع أنا بجسدها اللين..
اقتربي أكثر يا ريم, اقتربي فلن تعاقبك الطبيعة على ما أودعته فيك, اقتربي لربما نصل إلى ما نريد, التصقي بي أكثر كي أريك الانفجار... الانفجار العظيم.
تدفعني بيدها فجأة, ثم تخرج هاربة دون أن تتكلم..
- مجنونة
أضحك..
أقضي الليل بين الأوراق الممزقة, والفئران التي تخرج بين الحين والآخر متعجبة من تواجدي, أتمكن أخيراً من تجميع صفحة واحدة..
بط بلدي..
أوز..
النساء جميعهن طيور منزلية إذا ما قورن بسمية, هذا ما أحسه حين أراها. ربما لم أشعر بالارتياح قليلاً في بادئ الأمر لأنها لم تكن تشبه تلك الفتاة التي رسمتها في ذهني, لكنني سرعان ما رسمت بعيني إحدااثيات خضراء حول خديها المثلثتين وغمازتها التي تحتل منتصف ذقنها.. سرعان ما أصبحت سمية مفهومي عن النساء وعن الجمال. وسرعان ما أصبحت ذنبي الذي أخجل أمام الله منه.
لقاؤنا حرام يا سمية, حديثنا حرام, وأنت لا تريدين الزواج, تقولين إن الحب لا يعني بالضرورة الزواج, وأنا أريد أن أبقى معك. يقول أبو ذر إن الحب ينبغي أن يكون لله ورسوله, فهل أشركت أنا بحبك؟ هل غضب الله مني لأنني أعشقك؟
"لا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك ... فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع" وأنا "ذكرتك والرماح نواهل مني"..
أو ربما أنا لا أنساك كي أذكرك يا سمية, ترى من أحب أكثر, أنا أم عنترة؟
توقظني ريم..
ألحظ تغيرات كثيرة عليها, فقد عقصت شعرها ولبست رداء واسعاً لم أرها به من قبل. كانت عيونها تلمع كأنها تمنع دموعاً من الانهمار رغما عنها..
أخبرها بما وصلت له, تقرأ ثم تنهض لتجمع ورقة أخرى.. ينقضي النهار قبل أن يتمكن أي منا من تجميع أي شيء, نخرج إلى السطوح, نقف عند السور نراقب السيارات المارقة. الدموع مازالت تقف عند حافة رمشها السفلي, تنظر نحوي:
- أنا آسفة..امبارح كنت خايفة من..
أضحك
- ده مش خوف دي فوبيا..
تستنكر:
- ده أنا؟
أصيح:
- بارانويا..
- من المؤكد انك فاكرني رخيصة دلوقتي..
أهتف:
- ضلالات
- اسكت
أضحك..
تبكي.
أحضنها على الفور, تدخل روحها داخلي, ونذوب كجسد لإنسان واحد بلا نوع.. تخبرني بأنها خائفة, وأنهم هددوها صباح الأمس, وإنها لن تترك البلد فقط لأنها مختلفة, تقول إنها تنتمي إلى هنا, وإنها لن تغادر. أحتضنها بصمت, ننام على البلاط دون أن نكترث لأي شيء, تبدو النجوم كثيرة جدا في الأفق, أشير إلى السماء, أتساءل دون أن أنطق هل يغضب الله مني لأنني بجوارك يا ريم؟ أتمنى لو كنت تؤمنين به فتجيبينني. نحملق في الأفق في صمت, لابد وأن أكثر هذه النجوم انفجرت وبقي ضوءها لطعا مضيئة في السماء, أسألها عن سبب كل هذه الحيرة؟ فتجيب بأنها أيضاً لديها الكثير من الأسئلة وليس لديها إجابات.. نتكلم كثيراً حتى تنام..في الصباح أستيقظ لأجدها وقد ذهبت.
أعود إلى المكتب, أجمع ما تبقى من ورق:
أيتها العذراء المجيدة، لقد اختارتك المشورة الأزلية لتكوني أمّ الكلمة الأزلي المتجسد. أنتِ حافظة النِعم الإلهية والمحامية عن الخطأة. ألتجئ إليك أنا عبدك غير المستحق ، تكرّمي وكوني هاديتي ومشورتي في وادي الدموع هذا. يا عذراء "هذه الآن عظم من عظامى ولحم من لحمى، هذه تدعى امرأة لأنها من إمرء أخذت" لأنها أخذت من ضلع مني, يا عذراء أحبها, والرب رب المحبة, فهل أرتكب بمحبتي خطيئة لأنها مسلمة؟ يا قلب مريم ، مصدر الحب الحقيقي ، املأ قلبي الأناني بالمحبة الإلهية التي بدونها لن أعرف السلام. صلي من أجلي يا عذراء كي أستطيع أن أعيش كل لحظة للحب , للمسيح, وأبعديني عن الخطيئة, أبعديني عن سمية.
ألتقط الهاتف, يأتيني صوت ريم, أهرول على السلم, تدور برأسي ترنيمات س4, ودعواته, وأسئلة كثيرة عن سمية, تصم أذني صرخات ريم وهي تخبرني بأنهم شوهوا وجهها, أجري في الشارع, أرفع رأسي إلى السماء, يا الله, أيها الآب الرب الروح القدس, تباركت يا رب في السماء وفي الأرض, لماذا تتركنا في هذه الحيرة, أتخلص من أفكاري بعد الحجارة البيضاء, أعبر الطريق, أنظر للسماء, أردد "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد".. صوت سيارة.. ونور ساطع يأتي من بعيد..