نوفمبر 27، 2010

اختفاء الظل

Attracted-to-Light---moth-733029 أقف أمام جدر من الحجارة...

لا أعرف فائدة للحضور هنا ولا أذكر ما قرأت وما لم أقرأ, فقط أقف في صمت بلسان يعجز عن الدعاء وعقل داهش وعينين تبحثان في شوك الصبار وغلظة حجارة القبر عن شيء لا تعلمانه.

أعود في نفس الطريق فأقابلهم, تتحرك أفواههم بكلمات واحدة يكررونها منذ أكثر من عام...

- شد حيلك.. تعيش وتفتكر

ثم يتلفظون بكلمات لا معنى لها عن الصبر ويفرطون في ذكر النتيجة دون أدنى إشارة عن طريقة تحقيقها. ينعقد لساني أكثر فيأخذهم الحديث إلى مآثره. أنصت في لهفة لكنهم سرعان ما يترحمون عليه ثم ينتقلون إلى الحديث عن حالهم وحالي, وكأن الرحمة تعني أن نطرده من حديثنا وأن نستبدل اسمه الحي بلفظة واحدة ثقيلة مصمتة...

أهرع إلى بيتنا القروي الواسع, أعرف أنني سأرتاح هنا حيث لا يقطع أشعة الشمس أحد, لطالما أردت بيتاً تتوسده الشمس مثل هذا, تقول أمي إنني يمكنني أن أتزوج هنا إن أردت... أتجول بين الحجرات, أغمس يدي في الضوء الساري بين الحجرات في حيادية تامة, ثم أضع رأسي على وسادته.

أراه بجلبابه الأزرق جالساً عند الطبلية, يتسارع توارد الأفكار على رأسي, هل أخبره بأنهم جاؤوا ينعونه في حزن ظاهر بينما كانت أنوفهم تسحب من هواء الغرفة آخر ما تبقى من أنفاسه لي؟ وهل سيغضب حين يعلم أنني وزعت جميع ملابسه؟ وماذا سأقول لأهل القرية الذين دفنوه معي؟ هل سأخبرهم أنه حي أم سيخذلني ويختفي كما يحدث كل مرة؟

أنظر إليه, أشعر بلحم كتفي وهو ينبري تحت هم بثقل النعش يوم حملته. سرعان ما أوقن بأنه قد حان الوقت لملامحي الشمعية أن تذوب وللولد الصغير أن ينطلق, أتجاهل كل الأسئلة التي تشغلني, أتجاهل شعوري بالخزي, أبكي فقط ثم ألتقط أنفاسي بعد وقت طويل بسؤال واحد: "لماذا تتركني هنا؟"

يبتسم.. ثم يفتح غرفة فأرى جدي حسن وأخرى فأرى جدي عبد النعيم راقدين..

أبتسم حين يشير إلى غرفتي, أفتحها بهدوء وأغوص أنا أيضاً في بقعة من ضوء.

نوفمبر 06، 2010

السر

Egyptian_Rural - جدك في الستين لكنه بصحته ويركب أعلاها نخلة دون أن يبدو عليه مجهود.

تقول جدتي جملتها في فخر, تبتسم وتحرك حصوات في يدها تحكي عن تعلقه بها وعن زواجهما ثم ما تلبث أن تبكي بشكل هستيري..

- لماذا تضربني يا أحمد, أنت عفي, لكن ليس علي. أنا بنت ناس يا أحمد وسأحكي كل شيء لخلف أخي وهو سيأخذ حقي منك.

يشدني أبي من ذراعي بعد أن يطيب خاطر جدتي ويفرش لها المصطبة كي تنام. تغمض عينيها بينما الدموع لا تزال على خديها, تردد اسم جدي بشفتين مرتجفتين ونبرة متحسرة.

في الخارج لم يستطع الضوء الخافت للقمر أن يغير من ظلمة الممر الضيق, كما لم يكشف سوى عن بعض تفاصيل من وجه أبي ورؤوس النخل المهتزة على أطراف الحقل المجاور. أجلس إلى جواره على المصطبة, عين سيجارته تحمر في الظلام فتهرب الأسئلة من رأسي, ثم يضايقني صمتنا فأستجمع شجاعتي وأسأله عن جدي خلف وجدي أحمد وجدتي السر.

- مصارين البط تتعارك يا ولدي.

تقولها عمتي التي خرجت لتوها من الدار بينما تمد لي يدها بكوب من اللبن المغلي. ألتقط الكوب فتمصمص شفتيها وتردف بأن الواحد يمكن أن يقتل أقرب الناس إليه وهو غاضب. تجلس على الأرض مسندة ظهرها إلى الدار ثم تصمت.

أنظر إلى أبي وعمتي وقطة بيضاء نامت عند باب الدار فأراهم كلوحة ذات بعد واحد. تختلط الكثير من الأفكار في رأسي, أشعر برغبة في التدخين لكنني أخجل من أبي, أستنشق الهواء الذي تنفسه ربما يتوقف الألم في رأسي أو ربما أفهم. أتساءل لماذا يبدو الأمر عادياً وطبيعياً للجميع إلا أنا؟ ولماذا يستجيب الناس والأشياء في تثاقل وصمت هنا؟ أكره الانضمام إلى اللوحة الصامتة فأقول بصوت منخفض:

- هكذا ضاع ثلاثة بدلاً من اثنين.

أحس بغضب أبي من خلال التماع مقدمة سيجارته لفترة طويلة, يرد بلهجة حاسمة بان النساء لدينا لا يسجن ولا تأخذهن الحكومة, وأنه شهد مع الشهود, وأن جدي السيد شهد هو الآخر على ابنه وشهد سليمان وخليفة وحتى منصور العبيط.

تتحرك رؤوس النخل كأنما تؤكد على كلام أبي, يختلط الجريد بالجريد محدثاً صوتاً مميزاً, تشتد الرياح ثم سرعان ما تحمل معها صوتاً نعرفه جيداً.

على الفور أجري أنا وأبي وعمتي وجيران لنا, تخوض أرجلنا في المسقي وتمتلئ بالطين.. ننتزع جدتي السر من تعلقها بالنخلة, تحتضنها عمتي وتربت على ظهرها, تصرخ جدتي:

- انزل يا أحمد.. يا أحمد انزل.

تضع جارة لنا يدها على صدرها وهي تتمتم في حزن:

- استر على عبيدك يا رب.

كتبت هذه القصة في جلسة الارتجالة بمغامير. الأحداث حقيقية وكنت قد أشرت إليها في تدوينة "جدتي اسمها السر". الجملة الأخيرة في القصة مقتبسة من قصة “سماعين” للرائع خيري شلبي.