مصر الافتراضية والمشهد السياسي
كان سؤال الفلاح العجوز به الكثير من البلاهة لكنني لم أرد عليه ليس لأنه أبله ولكن لأن سؤاله أثار تفكيراً متواتراً في عقلي. استمر سؤاله يتردد داخلي: "هو فيه حد من الرؤسا جاي بكرة؟" رؤساء؟ وهل تعرف هذه البلد سوى رئيس واحد؟ جعلني سؤاله أتخيل أننا في الولايات المتحدة حيث يسير الرؤساء السابقون مع الناس في الشارع (أو على الأقل يظهرون بين الحين والآخر) ثم فكرت في أن هذا العجوز البسيط لابد وأنه ينظر إلى أمين الشرطة أو أي شخص لديه نفوذ ولو ضئيل على أنه رؤسا!!
في الميدان كان سبب سؤال الرجل واندهاشه واضحاً, فالكثير من العمال والمهندسين يعملون بجد من الصباح الباكر, فقاموا بإعادة رصف الطريق وإعادة طلاء الرصيف وتعليق اللافتات المرحبة بالزائرين والضيوف (وهم ضيف واحد بالمناسبة) غير أن ما أذهلني بحق هو ما رأيته في الحديقة التي تتوسط الميدان في مدينتي الصغيرة, حيث كان بالحديقة أربع نخلات تعاني من إعياء شديد فجاء ونش عملاق وانتزعها من جذورها بينما عمل آخر على زراعة أربع نخلات زينة مثل النخل الذي نراه على شواطئ هاواي في التلفزيون في نفس مكان النخلات السابقات. ثم قام أحدهم بفرش نجيل صناعي على نجيل الحديقة الأساسي في همة يحسد عليها.
كان من المنتظر أن يزور الرئيس مدينتنا في اليوم التالي ومن هنا فقد تم كنس ومسح كل الشوارع التي سيمر بها وتم تركيب مصاعد باهظة التكلفة له كي يصعد إلى الأدوار العلوية دون أن يتأثر ظهر سعادته باهتزاز المصعد. كما تم توزيع الأعلام والصور على المديرين والموظفين والعمال الحكوميين وتم إعطاء كل منهم اللي فيه النصيب ومنحه اليوم التالي أجازة مدفوعة الأجر كي يهلل ويزمر ويطبل للرئيس حين يأتي.
الرئيس كما ترون يعيش في عالم افتراضي, لابد وأنه يمشي في الشوارع التي يتم إخلائها من أجله ويتساءل عن سبب الشكوى من الزحام, ولابد أن دماغ سيادته يصيبه إعياء شديد من التفكير في سبب التذمر والشكوى ووجود معارضين مع أن الشعب يعيش في مدن نظيفة والشوارع مغسولة بالصابون والمصاعد غاية في الراحة... شعب نمروذ
أشد ما أضحكني هو تعليق أحد البسطاء حين صاح في اليوم التالي بينما كانت سيارة الرئيس تعبر الشارع في الاتجاه المعاكس. قال الرجل: "الريس ماشي في المخالف.. ارجع يا ريس دي فيها غرامة وحبس". كان الرجل يمزح بكل تأكيد فهو يعلم أن قواعد عالمنا لا تسير على عالم السيد الرئيس, الذي يعيش في دنيا منفصلة تماماً عنا.
الحقيقة أن المشهد السياسي المصري يختلف باختلاف الناظر إليه. فالبسطاء من أمثال الرجلين السابقين يرون أن كل شيء تمام, وأنه لا حاجة للتغيير وأن حسني مبارك أفضل من غيره وأن جمال لابد أن يرث لأنه شبع (هكذا يقولون وبهذا التعبير تحديداً)!!
المثقفون (أو من يعتبرون أنفسهم كذلك) المعارضون لا يكفون عن الهتاف بحياة البرادعي الذي جاء كي يخلصهم من النظام الجاثم على صدورهم. والحقيقة أن البرادعي لم يقدم حتى الآن فكراً واضحاً للكيفية التي سيدير بها البلاد وهذا لأنه لم يعلن حتى هذه اللحظة أنه سيترشح للانتخابات بل سيكون من السخف أن يتحدث عن هذا قبل موعد الانتخابات بأكثر من عام ونصف.
وحين أتأمل البرادعي أشعر أنه لا يعرفنا, فقد قضى أغلب حياته خارج مصر, هو لا يعرف مشكلاتنا, بل رجع فقط كي يساعد في عمل تغيير سياسي قد يكون هو على رأسه. ومن لا يعرف مشكلاتك التعليمية والصحية والاجتماعية سيأخذ وقتاً طويلاً كي يفهمها خاصة وإن كان من كبار القوم الذين يتحركون في حراسة مدججة. أضف إلى هذا علاقات البرادعي الغير متزنة مع إيران والولايات المتحدة والعراق حيث فشل الرجل في استرضاء أي منهم (وربما لم يكن رضاهم هدفا له من الأساس) وتأثير هذا على مصر إذا افترضنا جدلاً أنه سيصبح رئيساً لها.
المعارضون المثقفون يهتفون بلا سبب واضح, ويشجعون شخصاً لا برنامجاً وفكراً, ويأملون في التغيير ولو من أجل التغيير فقط. ومع كل الاحترام لهم ومع كل الاحترام للبرادعي إلا أن الوضع مازال غامضاً بشكل كبير ولم تتضح صورة البرادعي بعد كشخص يمكننا ترشيحه كرئيس للبلاد.
هناك أحزاب كثيرة في مصر لكن ليس لها صوت ولا أهمية نسبية, والأحزاب الأهم منهم تم تقليم أظافرهم, فالإخوان المسلمون في ظل قيادة محمد بديع يبدون أقل نشاطاً وأيمن نور أصبح مثل القط العجوز الذي حلت به مصائب الدهر كلها فانزوى في مقاله اليومي بالدستور.
وبينما يمكن للمثقف المعارض أن يفتح الحنفية في الحمام ليجدها تسكب أخباراً عن وصول البرادعي أو لقاءاته التلفزيونية فلا تصل هذه الأخبار بهذا الوضوح للبسطاء الذين يؤمنون في النظام الحالي ويعتبرون جمالاً خير خلف لخير سلف.
حسناً دعونا نعيد تركيب صورة المشهد السياسي المصري: رئيس يعيش في عالم افتراضي, ونجل يعد نفسه للعمل السياسي والرئاسة ومرشح فوق أكتاف قليلة لا يعرف من يحملونه ولا يعرفونه, وأحزاب مقلمة الأظافر. لكن الصورة ليست بهذه السوداوية والمطرب الشعبي الحكيم عرف المخرج من هذا كله واختار لنا الحل. استمعوا معي لهذه الأغنية الشعبية الفكاهية اللذيذة.