يونيو 17، 2009

غروب

Working_in_the_morgue_by_myownlittlecorner

«لقد تأملت في المدافن من قبل، أليس كذلك؟» سألتني د. إيلين باترسون في عجلة بعد حصة التأمل في أحد الأيام. حدقت مقتربة جداً من وجهي. قالت «المدافن... لقد تأملت فيها، أليس كذلك؟»

«نعم، عدة مرات. لم يكن هذا بالأمر الشيق». أوه. تسألني وكأنني راهبة بوذية. التأمل في المدافن هو أساس استكشاف النفس البشرية، وهو مبدأ من المبادئ الأساسية في البوذية.

لقد دخلت إلى البوذية منذ ثلاث سنوات مضت، لكن بعضاً من زملائي النساك يقولون إنني لم أستوعبها، يقولون إنني أتصرف كما لو كنت سأعيش إلى الأبد.

«حسناً، دعينا نرى إلى أي مدى أنت قوية. إننا ذاهبتان إلى مشرحة مقاطعة لوس أنجلوس. قابليني في باحة إيقاف السيارات في 1140 شارع نورث ميشان. يوم السبت. في العاشرة صباحاً».

«حسناً، سأكون هناك».

«بكل تأكيد ستفعلين».

سأفعل. سأفعل؟ تعرف إيلين ما تفعله. أنا أعني، إنها راهبة فمن المؤكد أنها تعرف ما تفعله . لقد دخلت إلى هذه الديانة عندما كانت كبيرة بالفعل، في الأربعين تقريباً، أو ما شابه. إنها بوذية راشدة. أنا بوذية طفلة، في العشرين من العمر. الأطفال يكون لديهم مثل هذه الذوات المتضخمة. وطبقاً لإيلين، فالجميع في محراب ماليبو سئموا مني. نعم، حسناً أنا سئمت من بعض الأشياء أيضاً. أنا أعني، أنني دخلت إلى هذه الديانة، وأنني لا أمارس الجنس، لكنني لا أتعلم ما ينيرني أيضاً.

يعتقد راما أننا ينبغي أن نعيش ونعمل في الحياة بينما نحافظ على نذورنا الدينية. لقد أمر إيلين أن تساعدني في فهم الزوال, والذي يعني أنه لا شيء يبقى، لاسيما أجسادنا.

عندما عرفت وظيفة إيلين للمرة الأولى، عملها، أحسست بالذعر. كانت تبدو مثل نسر-جسد مربع قصير وبدين، أنف معقوفة وحادة، أكتاف محدبة جداً. هل تستطيع أن تتخيل كيف تجثم على الجثث، تقطع الأجساد الميتة، تقوم بأعمال التشريح الجريئة المروعة؟ إن هذه ليست وظيفة أستطيع القيام بها، لكنها تبدو مناسبة لها تماماً.

كان يوم السبت دافئاً عندما قدت شرقاً في سانسيت. لم يبرح الضباب أن ينقشع. قدت سيارتي الفولكس فاجن إلى باحة إيقاف السيارات. تومض إيلين بنور سيارتها الفيات من خلفي. تدوي موسيقى زاعقة عندما تطفئ المحرك، تخرج من سيارتها بجهد واضح، وتدور ناحيتي على رجليها الذين يشبها رجلي النسر. تنظر من خلال نظارتها، تلك النظارة التي تبدو غامقة من الخارج. إنها غامقة جداً من الداخل أيضاً.

«أمستعدة أنت؟»

«بالتأكيد، هيا بنا».

«سوف نذهب بلا شك. وسترين أشياء لن تنسيها. أبداً». تمشي إيلين أمامي، تقودني إلى باب رمادي سميك. يصدر صوت صرير حين ينفتح، يرتطم منغلقاً.

«مرحباً» تقول بصوتها المرتفع فوق كتفيها المتحدرتين، «في مشرحة مقاطعة لوس أنجلوس».

الأجساد... الأجساد في كل مكان. على نقالات ذات دورين... تحت هذه الملاءات المجعدة. لا أستطيع أن أراهم، لكنني أعرف أنهم هناك. إنهم هناك. تكشفهم الرائحة- الرائحة الكريهة للدواء المليء بالكيماويات التي تزكم الأنف والتي اتحدت مع اللحم المتعفن. أتنفس من خلال فمي، لكنني لا أستطيع تجنب الرائحة. الموت بهذا الإصدار ثلاثي الأبعاد لا يماثل صور الموتى التي نتأمل فيها نحن النساك. هذه الإصدار يقف أمام وجهك، ويغزو كل حواسك.

«هاي يا إيلين؟» أهمس ، «لابد وأن الناس يموتون في كل مكان وطيلة الوقت».

«نعم للناس مهارة خاصة في فعل ذلك».

«حقاً؟»

«نعم. إنهم يموتون كثيراً حتى أن المساحة لدينا ستنفذ. من فضلك توقفي عن الهمس. لن توقظي أي شخص».

ري، ري، ري، سحبت إيلين أحد النقالات إلى اليمين، كشفت الغطاء عن رجل لاتيني يبلغ من العمر ما يزيد عن الثلاثين عاماً. يحوط وجهه شعر خصال شعر داكنة، جلده الشمعي المشدود يشع باللون الأصفر تحت أضواء الفلورسنت. فتحت الباب. «سوف نعتني به لاحقاً»

«امم، إيلين؟»

«نعم؟ ماذا الآن؟»

«كيف مات؟»

«صدمته سيارة في شارع 405. دوني هذه الملاحظة: لا تمشي في منتصف طريق سريع. هذا قد يقلل من عمرك المتوقع».

«هل هو هنا منذ فترة طويلة؟»

«حسناً، انظري إليه جيداً» وكزتني كي أقترب أكثر. «ماذا تعتقدين؟»

«امم، لا أعرف». إنه محاك جداً للأحياء. مثل تمثال في نافذة عرض أزياء, تلمحه بينما تمشي بجانبه، وتحلف أنك رأيته يتنفس ويرتعش فتتوقف، تنظر، وإذا الحياة نزعت منه على الفور. تقف هناك على الرصيف تحدق فيه مع شعور بتقلص في أمعائك، تتساءل إن كنت قد تخيلت هذا اللمعان في عينيه». «أنا، امم، لم أر جسداً ميتاً في حياتي من قبل. لم أذهب قبل ذلك إلى جنازة».

«الجنازة ستتم مؤخراً. يتم التشريح أولاً. ستتم عملية التشريح له خلال ساعة تقريباً».

«تشريح؟»

«بالتأكيد. لقد رأيته من الخارج. ربما ترينه أيضاً من الداخل».

تقرقر أمعائي-بصوت عال. سأتقيأ، عرفت أنني سأتقيأ عندما فتحت فيه شقاً.

«هيا. سنذهب إلى الثلاجة».

«أوه، لا. لا أعتقد أنني أستطيع أن آكل الآن..»

«جيد. لأنك لن تريدي أن تأكلي هناك». تفتح إيلين الباب الحديدي المصمت فيصدر قرقعة وعصفة من الهواء, ندخل. يرتطم الباب مغلقاً خلفناً.

«هذه هي الثلاجة حيث نخزن الجثث».

ياه إن الجو بارد هنا. تزحف رعشات البرد على رجلي. لم أكن أدرك أنني سأكون في ثلاجة عملاقة. هذه السترة المزركشة بزهور وردية اللون والشورت الملائم لها لا تغطي الكثير من جسدي.

تقودني إيلين من المدخل الصغير إلى حجرة مليئة بالأجساد العارية. تتوقف قدماي، تتصلب عضلاتي، ويضيق حلقي. لا توجد ملاءات هنا. لا مداراة، ولا إشارة إلى الموت. هذه أرفف، أرفف من النساء. إنهن مكومات بارتفاع ستة جثث على رف معدني، مثل أرغفة الخبز في المخبز. لكنهن ليسوا دافئين وطيبي الرائحة، إنهن باردات وليس لهن رائحة. إنهن يغطون الحوائط ويملؤون الغرفة، مما يكون متاهة من الأرفف. الهواء مليء بأرواح الميتين الجدد.

«حسناً، لقد أوصلتك إلى هنا. الآن تمكثين وحدك». تفتح الباب، يرتطم. لقد ذهبت إيلين. لكنها ستأتي رغم ذلك، أليس كذلك؟

حسناً لن أبقى هنا بمفردي. وكأنني نسيت ما جئت إليه, أشد مقبض الباب، أنتزعه بشدة. ينبغي... أن... أفتح... هذا... الباب... الغبي. أوه! إنه عالق. حسناً لا تفقدي أعصابك. تنفسييي. ياه. الجو بارد هنا. أشعر كأنني عارية جداً.. مثل هذه الأجساد من حولي بالضبط، كلهم ينتظرون كي يقطعوا أو أن يطلبوا. يمكن أن يكونوا نائمين، يحلمون. إنهم في عشرينياتهم، ثلاثينياتهم، يحلمون بأنهم طويلين ورشيقين ومرغوبين. وهم كذلك، هم بالفعل كذلك. أين العواجيز؟ أين القبيحون؟

أخطو خطوة صغيرة باتجاه الأرفف. أنظر إلى سمراء نحيفة. يخفق الضوء في الأعلى، ويعطيها لمعة مخضرة. يا الله، إنها في مثل عمري. وجهها طويل، شفتاها نحيفتان، شعرها مموج متمدد على الرف خلف ظهرها الزيتي اللون. يا الله. إنها تبدو-كانت تبدو- بشكل مشابه لي. الآن أصبح جلدها جيرياً، وشفتاها شاحبتين، وشعرها جاف. ما الذي حدث لها؟ كيف ماتت؟ هل كان السبب هو الخمر؟ المخدرات؟ القيادة؟ وإلى أين كانت ذاهبة؟ إلى العمل؟ إلى التمرين؟

من المؤكد أنها لم تبدأ يومها الدافئ في لوس أنجلوس وهي تحس أنها ستموت مع الغسق، ستكون في الثلاجة مع غروب الشمس، وفي القبر غداً. بالتأكيد هي لم تشعر بهذا، لم تعرف أن غريبة -وهي أنا- ستحدق فيها وتسأل هذه الأسئلة. أريد أن ألمس هذه السمراء، أن أرى إذا ما كانت بهذه الصلابة والتصلب والموت كما تبدو. لكنني لا أستطيع أن أتحرك. متصلبة, متجمدة, ملصوقة في أرضية المشمع الرمادي.

حسناً، افعليها. كوني شجاعة. بوجه تجعد من الخوف، وظهر منحني إلى الخلف، خطوت خطوة صغير باتجاه الرف الخاص بها. أمد ذراعي إلى الأمام، ألمس ذراعها وأعود بخوف للوراء. ذراعها بارد، صلب مثل تفاحة خضراء. ألمس ذراعي- دافئ، مرن، كحبة خوخ في أحسن حالاتها. أخطو مقتربة أكثر. ألمسها. ألمسني. ألمسها. ألمسني.

أشعر كما لو كان قلبي يخفق وهو مفتوح، وأسقط على الأرضية. يشقني الحزن من منتصف صدري- أشعر بالحزن من أجلها، من أجلي، من أجل الجميع، من أجل كل شيء سيهلك في يوم ما. أمد ذراعي نحوها، آخذ يدها الخالية من الحياة في يدي، أضغطها، أمسكها. من كانت؟ هل كانت تحب بشكل جيد؟ هل أحبت بشكل جيد؟ هل أنا؟ هل فعلت أنا ذلك؟

الحياة. نفيسة جداً. كاملة جداً. عابرة جداً، مثل الدمعة المالحة التي تهبط على خدي. ألتقطها بلساني، أتذوقها، أشمها. حلوة ومرة، عطرة ونتنة، مقطوعة موسيقية وقعقعة علبة صفيح، رف فوق رف. على أرضية الثلاجة، وأنا محاطة بالميتين، وأمسك يد جثة، أتذكر لم أصبحت راهبة في المقام الأول: كي أساعد الناس، كي أقلل من المعاناة الإنسانية. أعود ليد السيدة، أريحها على رفها، أضعها بجانب فخذها. شكراً لك. شكراً.

أنهض. أتهادى حتى أصل إلى الباب، أدير المقبض، أترنح خارجة من الثلاجة. أسقط في الردهة المكسوة ببلاط رمادي، أسند بيد واحدة على الحائط الأبيض بينما الدموع تتساقط على سترتي المزركشة بالزهور الوردية. تتهاوى رجلاي بعد الباب الجانبي، خارج رصيف باحة إيقاف السيارات، في آخر الظهيرة الخالية من الغيوم.

وأتجه إلى الغرب. إلى الغرب في شارع سانسيت. 978-0071489751 Rules for Renegades lg_thumb[1]

 

من كتاب “قواعد للخارجين عن المألوف"
للكاتبة: كريستين كومافورد لينتش

ترجمة: عمرو محمود السيد

هناك 14 تعليقًا:

Unknown يقول...

معرفش

هى الحياة اه غالية ونفيسة وعابرة وكل حاجة بس احيان كتير مبنبقاش عايزين الحاجة الغالية دى

يمكن مستخسرينها فى نفسنا او مش شايفين انها غالية اوى كدة

احيانا بتكون رخمة اوى وتقييييييييلة ورخيصة ومملة ومحبطة وخصوصا لما تبقى فاضية من حواليك..

لا انا لو اتكلمت فى اسباب جعل الحياة متستاهلش هتكلم كتير خصوصا النهاردة

كفاية كدة بقى

بقولك ايه يا عمرو يا سيد..انت تحفة

عمرو يقول...

أكرمك الله يا إنجي
لكن لكمة تحفة تقال أحياناً للذم وفي بعض الأحيان للمديح. فأيهما تقصدين؟
إيه رأيك في التعليق الفصحى ده؟
الدنيا على طول حلوة. تعرفي أنا في ساعة واحدة ممكن أحس بالاكتئاب والسعادة. ففهمت إن الدنيا بتبقى زي ما احنا عايزين نشوفها.
مش كفاية على فكرة.. استفيضي في التعليق
هههه
باي

تــسنيـم يقول...

الصورة واسم التدونية في الجووون.. معبرة جدا يا عمـرو



وأرجع أقولك إننا مبنعرفش قيمة الحاجة غير لما بنفقدها.. وأحيانا كتير بنبقى غافلين عما نملك في خضم البحث عما لا نملك

عمرو يقول...

صحيح كلامك يا تسنيم
بس أفضل حاجة نعملها إننا نبص على اللي فقدوها. ساعتها هانعرف نشكر ربنا قبل ما نفقدها إحنا

باعلق بسرعة.. عارف
:)

Unknown يقول...

لا والنعمة الشريفة يا سى الاوستاذ عمرو محمو السيد انا قصدى المدح والله

مستنياك تتقوقز على القصة الجديدة بتاعتى

عطش الصبار يقول...

الأجساد... الأجساد في كل مكان. على نقالات ذات دورين... تحت هذه الملاءات المجعدة. لا أستطيع أن أراهم، لكنني أعرف أنهم هناك
ياااااه يا د. عمرو
اشياء كثيره لانستطيع ان نراها ولكن نعلم انها موجوده نراها بوضوح عندما يقترب الغروب ويهدأ ضوء الشمس الذى يعمى العيون فتتضح الرؤيه تماما
فنكتشف اننا تجاهلنا الاشياء التى كنا نعرف انها هناك
نحاول ان نستدعيها ان نعيشها
ونكتشف ان الحياه كان ينبغى ان تعاش
د. عمر صاقيه الصاوى كل علاقتى بيها انى بسمع عنها ونفسى احضر فاعلياتها
لكن للا سف انا شرقاويه بعيد شويه عن الزمالك يمكن ربنا يحقق امنيتى واشوف فيها حاجه
سؤال ايه الى خلاك ربط بينى وبين ساقيه الصاوى الصرح الثقافى العظيم
فى انتظار المزيد
تقبل تحياتى

MarwaAshraf يقول...

أنا جاي بس أثبت حضور علشان مش حعرف أقرا دلوقتي

أنا راما
أو مروة
:)

سلامات

عمرو يقول...

أهلا عطش الصبار
أولاً ليه مصرة تقوليلي يا دكتور عمرو.. أنا مش دكتور والله
ثانياً أنا أصلي قابلت واحدة من المبدعات واديتها اسم المدونة فافتكرتك هي..
طيب ممكن سؤال؟ انتي عرفتي مدونتي منين؟
عموماً أنا فرحان قوي إنك من الشرقية. أنا باحب البلد دي رغم إني ما زرتهاش.
بيقولوا الشراقوةأولاد عم الصعايدة
يعني احنا ولاد عم
:)

عمرو يقول...

أهلا راما
المدونة نورت بيكي يا فندم
استني هاجمعلك زوار المدونة
يا عطش الصبار
يا إنجي
يا إيزو
يا آية
يا أحمد
يا تشي
يا مايكل
يانور
يا تسنيم
تعالو رحبوا براما
:)

Che يقول...

عمووووووور
عامل ايه يا وحش ... مش بتسأل ولا حاجه ... على كل سماح المره دى
انا قريت اخر 3 بوستات ... و انا معجب جدا باختياراتك اللى بتنشرها
بس كده .. عشان انا مش قادر اعلق بعد ماتش مصر و امريكا

عمرو يقول...

أهلا تشي
ما تآخذنيش يا صاحبي. أنا زرتك والله بس مش عرفت أعلق
فعلا الماتش كان سيء للغاية. أنا رحت نمت وسيبته. كنت عارف إننا هانتغلب. بس ما كنتش عارف إننا هانتفضح
:)

أسما يقول...

" الحياة. نفيسة جداً. كاملة جداً. عابرة جداً" حلوة اوي الجملة دي، انا وقفت عندها ييجي كتييييير كدة. ماليش دعوة، انا عايزة الكتاب ده، إتصرّف.

واحدة مجنونة يقول...

اسلوبك في الترجمة رائع للغاية
و بما ان القصة مش بتاعتك فمش هعرف امدحك عليها
بس هي جميلة و كئيبة جدا كمعظم الاشياء حاليا
اول زيارة بس هحاول اخليها مش الاخيرة
تقبل مروري
و ان كان متأخر
تحياتي

عمرو يقول...

واحدة مجنونة
طبعا أنا مترجم عبقري. ده أنا باعرف لغات كتير قوي منهم الضفاديعية
:)
عموما يا رب يسعد أيامك كلها
:)