عندما كنت طفلاً –وأنا بما سأقوله لا أدعي أبداً أنني كنت طفلاً عبقرياً فأنا كنت عادياً جداً ومازلت- كنت أفكر في أوجه التشابه بين الذرة والمجموعة الشمسية. فكنت أقول لنفسي إن الذرة نواة حولها إليكترونات, والأرض نواة وحولها القمر, والشمس نواة وحولها الكواكب, وربما يكون للمجرة نواة لا نعرفها, وربما تكون كل المجرات هي في الأساس ذرات مكونة لحجر في يد طفل عملاق يلقيه على شاطئ بحر هائل الحجم على كوكب ما.
عندما كنت طفلاً كنت أنظر إلى الأرض على أنها واحدة من سبع وكنت أظن أن الأراضين مكورة على بعضها كما أكور أنا أغلفة البسكويت الذهبية وألعب بها.. وخلف هذه السموات وفوق هذه الأراضين لابد من صانع ينظر إلينا جميعاً, ويرى أعمالنا.
وكنت مثل أي طفل في سني أدخل في تلك المتوالية التي تبدأ بأنني جئت من نسل أبي وأن أبي يعود لآدم وأن آدم خلقه الله, فأجد نفسي عند سؤال لا إجابة له: من يا ترى خلق الله (ولله المثل الأعلى)؟
العجيب أنني بعد عشرين عاماً مازلت أطرح على نفسي أسئلة وجودية لا أجد لها إجابة.. منذ قليل من السنوات تفكرت في الكيفية التي يراقبنا بها المولى عز وجل, وكيف يستطيع أن يكون مع بلايين البشر وما لا يعد من المخلوقات في نفس الآن, وتوصلت إلى أن هذا ربما يتم من خلال الزمن, فالله يقول في حديثه القدسي "لا تسبوا الدهر, فإنه مني" وفي رواية أخرى "فأنا الدهر". ربما يكون الزمن هو وسيلة الله كي يكون أقرب إلينا "من حبل الوريد".
لم أندهش حين سمعت خبر شيخوخة النعجة دولي المبكرة فقد كان يثبت ما أفكر به. فالزمن هو البعد الرابع لكل الموجودات وهو الذي يحدد وقت هلاك الحيوانات والجمادات وهو مرتبط بطريقة ما بالله الذي يرانا ويسمعنا جميعاً, لا مشكلة في فهم سماع الله لنا جميعاً إن كان الصوت الذي يخرج من أفواهنا له هو أيضاً بعد رابع غير داخل في تكوينه متصل بالذات الإلهية.
الدين الإسلامي لا يقدم إجابات عن السؤال السابق (كيف يرانا الله ويسمعنا جميعاً في ذات الآن؟) ولا عن بقية الأسئلة التي تدور بعقلي.. فديننا يعد الكثير من علامات الاستفهام أموراً غيبية واجب الإيمان بها, وخطر التفكر فيها. وهو يقدم لنا الله بصفاته السلوكية. فالله هو الرحمن الرحيم الملك القدوس إلى غير هذا من أسماء الله وصفاته. لكنه لا يخبرنا عن أي من صفات الله غير السلوكية. والإشارة الوحيدة إلى رؤية الله موجودة في قصة سيدنا موسى حين لم يستقر به الجبل "وخر موسى صعقا" (الأعراف 143) دون أن يرى الله.
نحن نؤمن في أن الله موجود من خلال الاستدلال, فالله لم يره أحد. والاستدلال على وجود الله ليس بالأمر الجديد, فقد كانت حكمة الأعراب تصل إليه, وجملة الراعي الشهيرة في هذا خير مثل: " إن البعرة تدل على البعير، وإن الأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على السميع القدير؟". لكن الاستدلال العقلي شيء والإيمان القلبي شيء آخر. ومن يحب تنتابه دائماً شكوك وأفكار تدور كلها حول حبيبه. ويرغب دائماً في أن يطمئن إلى أن كل هذا المقدار من الحب لن يضيع. الله لم ينكر على عبده إبراهيم حين أراد أن يرى قدرته كي يطمئن. "قال أولم تؤمن. قال بلى ولكن ليطمئن قلبي" (البقرة260).
تدور في عقلي الكثير من الأسئلة التي ربما من الحكمة ألا أنطق بها.. بحثت عن إجابة في ترجمة معاني القرآن, وأنا اخترت الترجمة لأنني حين أقرأها أشعر بأن الكلمات والمعاني تلبس أثواباً مختلفة علي. وفي رحلتي نحو إيمان مطمئن قررت أن أقرأ بعض النصوص من العهد القديم إلا أنني لم أكمل القراءة لأسباب تتعلق بعدم اتساق ما قرأت مع مفهومي عن الكتب السماوية التي يمكن أن نتعبد بتلاوتها. ثم انتقلت إلى المسيحية, وقرأت فلم أجد إنجيلاً وإنما أناجيل تحكي عن حياة السيد المسيح وتهمل فترة من حياته تصل إلى خمسة عشر عاماً. لم أجد في المسيحية الكتاب المقدس الذي كنت أظنه وما قرأته لم يتعد كونه أحاديث للمسيح أو حكايات عنه تضع المزيد من علامات الاستفهام ولا تجيب عن أي منها. انتقلت بعد هذا إلى كتابات اللادينيين فإذا هم يزعمون أنهم أصحاب دين!! هم يقولون أنهم لا يؤمنون بوجود أصدقاء تخيليين يساعدونهم ويرزقونهم ويشفونهم مثلما يؤمن البوذيون والمسلمون والمسيحيون واليهود. فهم يؤمنون في الأصدقاء الحقيقيين الذين يقرضونهم حين يتعثرون ويقفون إلى جوارهم حين يمرضون. لكن المنطق الذي ينطلقون منه مغلوط من الأساس. فالثابت أننا لا نعلم كل شيء, وأن الأصدقاء الحقيقيين (بتعبيرهم هم) موجودون لكن هناك من خلقهم. فجميع الأفكار التي استند إليها اللادينيون في تفسير الخلق من أول النشوء والارتقاء إلى الانفجار العظيم غير منطقية, ولا يمكن أن يصدقها عقل, وقد دحض مثل هذه الأفكار كثير من العلماء منذ قرون مضت وكان من أبرز هؤلاء الحسن البصري. البهائيون أيضاً لم يكن عندهم أي إجابة, فالكتاب الأقدس الخاص بهم مضحك في بعض نصوصه, والديانة كلها ما هي إلا إسلام متحلل محرف ومخفف.
يرى الكثيرون أن العقل البشري أقل من أن يسأل عن خالقه, وأنه لن يستطيع أن يفهم, لكنهم لم يتحدثوا عن القلب وكيف يستقر إن لم يطمئن. الثابت أن جميع الأنبياء والرسل كانوا يتفكرون في الله وفي خلق السماوات والأرض قبل بعثتهم. ربما لهذا منحهم الله شرفي النبوة والرسالة.
غريب أن تكتشف بعد ربع قرن من مشيك على الأرض أنك لم تعد تعطي نفسك ساعة كي تفكر في خالقك, وأن آخر مرة فعلت فيها هذا كان منذ سنوات كثيرة, وأنك تلهو وتمرح وتغيب عقلك, بل وتستند في هذا التغييب عن الدين بالدين.