يمكن للجميع الآن أن ينزعجوا, أن يعدوا أصابع أيديهم وأرجلهم أكثر من مرة قبل أن يفتحوا التلفاز أو يقرؤوا الصحف. فالكل يردد ما يقوله الكل, ولا أحد يعلم مصدر المعلومة ولا أحد يمكنه تأكيد صحة الخبر, ولا عزاء لحرفية الإعلام ومهنيته.
في البدء كان الإعلام الحكومي هو أول الراسبين في الاختبار, مما دعا سي إن إن إلى المقارنة بين شاشات الإعلام الخاصة والإعلام الحكومي في أحد برامجها الحوارية, ساخرة مما يحدث في مصر وقائلة بأن النظام المصري يتبع سياسات بائدة للسيطرة على الرأي العام.
ثم رسبت بعض القنوات الخاصة وعلى رأسها المحور التي بدا جليا أنها تعمل لصالح النظام وأن همها الأكبر هو بقاء الرئيس لا أن تقدم صورة محايدة للواقع. الغريب أن المحور تخلت عن كل أنماط الحرفية ومقوماتها وأصبحت منبراً لترويج الإشاعات لا يجذب إليه سوى المنتفعين من بقاء النظام. فالمحور هي أساس الإشاعات التي يرددها الشعب عن تلقي المتظاهرين لرشاوى (وجبة من كنتاكي ومائة إلى مائة وخمسين جنيه) كل يوم من أجل البقاء في الميدان, وعلى بثها "افتكس" حسن يوسف فكرة أن المعتصمين بميدان التحرير ليسوا هم شباب 25 وأن شباب 25 رحلوا من الميدان بعد سماع كلمة الرئيس (لأنهم مؤدبين وبيشربوا اللبن), وعلى شاشتها ظهرت شيماء التي ادعت بأنها تلقت تدريباً من الموساد لقلب نظام الحكم وهو ادعاء مضحك شكك فيه بلال فضل وقال إنه يعرف الفتاة ويعرف أنها موالية للنظام. المحور كان منبراً لإطلاق الكثير من الاتهامات بلا أدلة حقيقية وبث فوضى تضيف إلى الفوضى التي تعيشها البلاد.
لا يريد النظام أي وسيلة لإعلام حقيقي محترف محايد, لهذا أوقف خدمة الإنترنت ومن قبلها أوقف بعض المواقع الاجتماعية, ثم اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية سي إن إن بأنها تحض الشباب على الثورة ضد النظام, وهو اتهام أضحك مذيعة السي إن إن وأبكاني على وجه الخصوص.
كانت قناة الجزيرة هي المتلقي الأول لهجمات النظام, فخرج الخبر الذي يقول إن ويكيليكس أثبتت أن قطر تستخدم الجزيرة لدعم انقلاب الحكم في مصر. الجميل أن من يقرأ ويكيليكس الإنجليزية لن يجد ذكراً لهذا, ومن يدخل اليوم على الترجمة العربية لويكيليكس سيجد تكذيباً لهذا الخبر!
ما حدث من اعتداء على صحفيي الجزيرة وإغلاق لمكتبهم واعتقال لبعضهم وتشويش على ترددهم هو حيلة أمنية بائدة تحاول تقييد الخبر وكبت حرية التعبير. بالأمس تم اختراق الموقع الخاص بالجزيرة وقام من اخترقه بتصوير فيديو يعرض صفحة الموقع مكتوباً عليها "معاً لإسقاط مصر"! انتشر الفيديو كالنار في الهشيم وصدقه المصريون, دون أن يسألوا أنفسهم إن كانت الجزيرة بهذه السذاجة؟ أم أن غباء سياسيا وإعلاميا أصاب بلادنا وأثار الفتنة والفوضى؟
اليوم نشرت صحيفة الدايلي تليجراف البريطانية أن المتظاهرين في مصر تلقوا مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية, وكان للخبر أثر كبير على نفسية المصريين, فالجميع يقرأ ويصدق, والخبر هذه المرة من صحيفة بريطانية موثوقة. الحقيقة أن هناك الكثير من المنظمات الحقوقية والسياسية التي تدعو إلى احترام حقوق الإنسان والديمقراطية تلقت ملاييناً من الولايات المتحدة تحت أنظار الحكومة كمساعدات لها للقيام بمهامها وهو ما أزعج الرئيس ونجله, لكن ما تلفت الصحيفة النظر إليه بعيد عن هذا, فهي تشير إلى قيام أحد أفراد جماعة السادس من أبريل بالسفر إلى نيويورك أكثر من مرة لتلقي الدعم من الأمريكيين.
من يقرأ ويكيليكس يكتشف أن الأمر لم يكن كذلك, فالناشط المصري الذي أشارت إليه الدايلي تليجراف (المرجح أن يكون أحمد ماهر الذي تم القبض عليه بالفعل) ذهب إلى نيويورك أكثر من مرة لحضور قمة تحالف الحركات الشبابية Alliance of Youth Movements Summit, وهي قمة تعقدها الحكومة الأمريكية للناشطين في كل دول العالم وبشكل معلن من أجل الحديث عن طرق نشر دعائم الديمقراطية والحرية في بلادهم.
الثابت في ويكيليكس أن الناشط المصري تحدث مع موظفين أمريكيين رفيعي المستوى عن الوضع في مصر وعن نية أحزاب المعارضة قلب نظام الحكم وإقامة ديمقراطية برلمانية قبل الانتخابات القادمة لإيقاف سيناريو التوريث, وأنه قال إن أحزاب المعارضة لديها خطة غير مكتوبة وغير معلنة وأن الحركات الشبابية لها نفس الأحلام أيضاً.
(The activist) claimed that several opposition forces — including the Wafd, Nasserite, Karama and Tagammu parties, and the Muslim Brotherhood, Kifaya, and Revolutionary Socialist movements — have agreed to support an unwritten plan for a transition to a parliamentary democracy.
لكن كل ما قاله الناشط المصري قوبل في الإدارة الأمريكية بشيء أشبه بالسخرية, فقد رأى الأمريكيون أن هذه الأحلام بعيدة المنال وغير معقولة. حيث كان التعليق الأخير في التقرير المنشور بويكيليكس كما يلي:
(The activist) offered no roadmap of concrete steps toward April 6′s highly unrealistic goal of replacing the current regime with a parliamentary democracy prior to the 2011 presidential elections.
كما رأى الأمريكيون أن قيام أحزاب المعارضة بالثورة على نظام الحكم غير وارد:
Comment: We have no information to corroborate that these parties and movements have agreed to the unrealistic plan (The activist) has outlined.
لا أقول إن هؤلاء الشباب لم يتعاونوا مع أي جهات خارجية, لكنني أقول إن السواد الأعظم منهم لم يفعل, وإن الغالبية العظمي من الواقفين الآن في التحرير من الشرفاء الذين يحلمون بوطن أفضل. ما ذكرته ويكيليكس على أي حال لم يكن تهمة ولا خيانة للوطن وإن لم نشعر نحوه بارتياح تام.
من الواضح أن هناك أيد كثيرة تريد أن تلطخ سمعة شباب المعارضة البيضاء, الكثير من وسائل الإعلام تريد أن تحقق سبقاً على قفاهم, البعض منها يداهن النظام على حسابهم, والبعض الآخر يتعرض للتشويه والاختراق والضرب لمناصرتهم. أما المواطن البسيط فهو يصدق أغلب ما يقال, ويردده ومن هنا تأتي بذور الفتنة, فالأهالي ينظرون الآن إلى الشباب على أنهم مضحوك عليهم, وأنهم مصدر عدم الأمن الذي أصاب البلاد ومصدر وقف أعمالهم وسبل رزقهم.