اختفاء الظل
لا أعرف فائدة للحضور هنا ولا أذكر ما قرأت وما لم أقرأ, فقط أقف في صمت بلسان يعجز عن الدعاء وعقل داهش وعينين تبحثان في شوك الصبار وغلظة حجارة القبر عن شيء لا تعلمانه.
أعود في نفس الطريق فأقابلهم, تتحرك أفواههم بكلمات واحدة يكررونها منذ أكثر من عام...
- شد حيلك.. تعيش وتفتكر
ثم يتلفظون بكلمات لا معنى لها عن الصبر ويفرطون في ذكر النتيجة دون أدنى إشارة عن طريقة تحقيقها. ينعقد لساني أكثر فيأخذهم الحديث إلى مآثره. أنصت في لهفة لكنهم سرعان ما يترحمون عليه ثم ينتقلون إلى الحديث عن حالهم وحالي, وكأن الرحمة تعني أن نطرده من حديثنا وأن نستبدل اسمه الحي بلفظة واحدة ثقيلة مصمتة...
أهرع إلى بيتنا القروي الواسع, أعرف أنني سأرتاح هنا حيث لا يقطع أشعة الشمس أحد, لطالما أردت بيتاً تتوسده الشمس مثل هذا, تقول أمي إنني يمكنني أن أتزوج هنا إن أردت... أتجول بين الحجرات, أغمس يدي في الضوء الساري بين الحجرات في حيادية تامة, ثم أضع رأسي على وسادته.
أراه بجلبابه الأزرق جالساً عند الطبلية, يتسارع توارد الأفكار على رأسي, هل أخبره بأنهم جاؤوا ينعونه في حزن ظاهر بينما كانت أنوفهم تسحب من هواء الغرفة آخر ما تبقى من أنفاسه لي؟ وهل سيغضب حين يعلم أنني وزعت جميع ملابسه؟ وماذا سأقول لأهل القرية الذين دفنوه معي؟ هل سأخبرهم أنه حي أم سيخذلني ويختفي كما يحدث كل مرة؟
أنظر إليه, أشعر بلحم كتفي وهو ينبري تحت هم بثقل النعش يوم حملته. سرعان ما أوقن بأنه قد حان الوقت لملامحي الشمعية أن تذوب وللولد الصغير أن ينطلق, أتجاهل كل الأسئلة التي تشغلني, أتجاهل شعوري بالخزي, أبكي فقط ثم ألتقط أنفاسي بعد وقت طويل بسؤال واحد: "لماذا تتركني هنا؟"
يبتسم.. ثم يفتح غرفة فأرى جدي حسن وأخرى فأرى جدي عبد النعيم راقدين..
أبتسم حين يشير إلى غرفتي, أفتحها بهدوء وأغوص أنا أيضاً في بقعة من ضوء.