مارس 29، 2020

من التاريخ السري لعمرو السيد


هذا هو رابع أيامي بلا حمى...

كانت الأعراض بسيطة في البداية... التهاب وجفاف في الحلق، وإرهاق، وصداع، وآلام بالجسم، ثم تطور الأمر إلى حمى وآلام بالرئتين وصعوبة في التنفس.

على مدار أسبوعين، كان المرض كنصل حاد مر على رقبتي فلم يأخذها، وإنما ترك لي خدشا سطحيا بسيطا أذكره به.

في البداية أنكرت ما لدي، كنت أقول لنفسي "هذه ليست كورونا، فأنا لم أخالط مريضا أو قادما من سفر"، ثم بدأت يوما بيوم ومع تقدم الأعراض أشك وأحتار وأقلق.

على الهاتف يخبرني الخط الساخن أن ألتزم المنزل لأسبوعين، وتخبرني مديرة الموارد البشرية ألا آتي إلى العمل، وأنني في إجازة مفتوحة... تخبرني موظفة الاستقبال بالمستشفى أنهم لن يتمكنوا من خدمتي. يقول لي الطبيب إن الاختبار غير متوفر لمن هم في حالتي، وإن كل شيء سيكون على ما يرام. خلال ساعات قررت زيارة عيادته، لابد وأنه يستطيع مساعدتي ولو بأدوية تعالج الأعراض، إلا أنه فزع وحولني إلى مستشفى عام لأخذ الاختبار فقط كي يطمئن على نفسه.

تمر الأيام ولا تأتيني نتيجة الاختبار، يقولون لي إنها لا تزال في المعمل، وفي كل لحظة أشعر بالنصل الحاد يمر على جلد رقبتي يقطعه قطعا خفيفا وبطيئا وأتساءل إن كان سيتمم مهمته بقطع العروق والأوتار.

الناس في كل مكان قلقون يترقبون نهايتهم رغم أنهم لم يصابوا بأي شيء، سيل من الأخبار عن ضحايا الفيروس... فيديوهات لمرضى شاحبين يتنفسون بصعوبة، ومقالات عن المصير الأسود الذي ينتظر من يقنصه المرض. أيقنت أنني هالك وأن الصباح التالي قد يأتي فلا يجدني. لم يكن ممكنا أن أخبر أي من أفراد أسرتي بما أصابني، سيأكلهم قلقهم علي وأنا هنا وحدي في بلد بعيد أغلق حدوده ومجاله الجوي. بدأت أهاتف أصدقائي واحدا تلو الآخر، نحكي عن أي شيء لربما أنسى أو أطمئن، لكن في كل مساء وعندما تحين لحظة النوم أصير وحيدا أصارع قلقي ومخاوفي بمفردي.

في المنام أتى أبي (رحمه الله) يساعدني في لملمة حقائبي وأصر أن يوصلني للمطار، قمت من نومي على خوف وضيق شديد في التنفس وحمى ورعشة متواصلة في كل جسمي، لم أشعر بالخوف من الأعراض والمرض بقدر ما خفت من فكرة السفر، فحقائبي ليست جاهزة...

كفيلم سينمائي رأيت حياتي كلها تعرض أمامي، راجعت كل وقائعها إلا أنني لم أستطع أن أحدد إن كنت شقيا أم سعيدا، وإن كان بكتابي ما يكفي للنجاة. فكرت في سيناريوهات مثيرة لحسابي ولم أصل إلى نتيجة من هذه الأفكار سوى أنني غير مستعد للرحيل... أحتاج إلى المزيد من الوقت "لعلي أعمل صالحا ترضاه".

قضيت بقية اليوم في محادثات هاتفية مع أصدقائي، أهرب مني ومن مخاوفي وأحاول طمأنة نفسي بهم. "انت ماعندكش حاجة"، "دي مجرد إنفلونزا عادية"، "انت بس بتحب توهم نفسك". حاولت جاهدا أن أؤمن بهذه العبارات دون جدوى وفي نهاية اليوم نمت وحيدا منهكا مثقل الأنفاس.

أيقظني أبي في منتصف الليل على عالم آخر... شمس مشرقة باردة وجو معتدل وجسد يشبه جسدي غير معتل ولا مريض، وبال خلا من القلق وحديقة تسر الناظرين. استيقظت وأنا مطمئن، فكرت في أن الموت قد يكون أفضل لي.

هدأ خوفي واستلسمت لأمر الله، بدأت أفكر فيما سأتركه لأسرتي، وكيف سيتصرفون من بعدي، ومضمون وصيتي، أخذت أنظر للأشياء من حولي، كيف سينقلونها وإلى أين.  سددت الفواتير التي لم أدفعها، وأرجأت أي دفعات غير مستحقة. هاتفت بعض من خاصمني واعتذرت. صليت لله ودعوت... أنا الذي لم أرزق الدعاء من سنين، نطق قلبي أخيرا ودعا: "يا رب لم أكن أعرف أني ضعيف جدا هكذا... جزوع جدا هكذا. يا رب هذه حقائب رتبتها على عجل لكنها أفضل من لا شيء... إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي".

في شاشة الموبايل رأيت آدم، ابني الصغير، وهو يناديني بصوتين لم يتعلم بعد سواهما "دادا دادا"، شعرت بالندم على كل اللحظات التي قضيتها بعيدا عنه منهمكا في الدراسة أو العمل. لو أنني كنت أعرف أن عمري قصير هكذا لكنت قضيت وقتا أطول معه. من وراء صورته رأيت أسئلة كثيرة شوشت على رؤيتي له شيئا فشيئا "هل سيدخلني الله الجنة لأنني حصلت على امتياز في المالية؟ أم لأني نجحت في الاقتصاد؟ هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟ وهل سيسامحني الله على تقصيري في طقوس عبادته؟ وهل سيثقل قلبي ونيتي موازيني؟ ألم يكن من الأولى أن أهب وقتي لمساعدة آخرين؟"، أبعد الأسئلة عن بالي جاهدا وأغني لصغيري كي ينام، نفسي أقصر من أن أغني لكنني أحاول قدر ما أستطيع.

أنام أنا أيضا ولمدة خمس ساعات... كانت هذه هي المرة الأولى التي أنام فيها خمس ساعات في ليلة واحدة منذ أن أصابني الفزع والمرض. في الصباح ومن خلف كمامة طبية، قررت أن أخرج لأرى الشمس، قدت سيارتي بهدوء في شوارع المدينة الخالية. فتحت نوافذ السيارة وأدخلت هواء طازجا إلى صدري، ثم عدت إلى المنزل.

على الهاتف قال لي صديقي إن "كل هذا سيمر"، ذكر في معرض حديثه آية من القرآن أحفظها لكنني سمعتها منه كأنني أسمعها لأول مرة "ولنبلونكم بشيء من الخوف". أدركت لحظتها حقيقة ابتلائي، وأنني لربما رسبت في الاختبار بسبب كل هذا الفزع الذي سيطر علي، تمنيت لو كنت أقوى جأشا، وأكثر صبرا.

بعد 14 يوما من الانعزال والمرض، رفع عن عنقي ذلك النصل الحاد تاركا لي جرحا غير غائر لربما أتذكر وأعتبر.

ملحوظة: حتى وقت كتابة هذه السطور لم أتلق نتيجة العينة ولا أعلم يقينا إن كنت قد أصبت بالمرض أم لا، إلا أنني متأكد من أن هذه الأيام كانت بمثابة محنة ومنحة.

هناك تعليقان (2):

أحمد الشمسي يقول...

كتابة صادقة وأمينة مع النفس قبل متلقيها.
ربنا يطمنا عليك دايما ويسمعنا عنك كل خير ❤

Ahmed Gado يقول...

كفاك الله شر المرض والخوف يا عمرو وحفظنا جميعاً وأهلنا وكل أحبائنا من أي مكروه.
أحسنت في اختيار الكلمات والعبارات وكلي ثقة بأنها ستلامس قلوب كل من يقرأها كما لامست قلبي. مقالك هذا مرأة كل البشر الآن. كل من مر أو سيمر مثلك بتلك الظروف وأراد التحدث عنها، سيختصر الطريق ويشير إلى مقالك ويقول اقرأوا هذه الكلمات فهي واقعي وهي خير من يمثلني.