يناير 06، 2013

الفرحة الآن


أمشي كما يليق برجل وحيد في بلد غريب، أضغط بسبابتي على منتصف نظارتي الشمسية التي أرتديها كي أشعر بأنني غامض بعض الشيء، أو كي أشعر بأنني لست أنا. أصل إلى سوق المدينة المزدحم، أشتري بعض الحلوى لطفل صغير يبكي فتشكرني أمه بابتسامة خجلة، وأتبادل بعض النكات مع بائع الجرائد الذي ماتت زوجته منذ شهور وتركته واجما، ثم أسير مرة أخرى متمنيا لو أذوب في الزحام أو أختفي.

تطرق يد على كتفي، فأدور للخلف بسرعة. أرفع نظارتي الشمسية على جبهتي وأنظر إلى صاحبة المعطف الأبيض والعينين الزرقاوتين. أقول لها بشكل مباغت:

- متشكر جدا، لم يبق لدي المزيد من الدماء لأتبرع بها

تنظر نحوي بغيظ وامتعاض شديدين، ثم ترفع عينيها للسماء قبل أن تقول وهي تمط شفتيها وتشير إلى لافتة على جانب الطريق:

- هذه حملة للتبرع بالأعضاء بالمناسبة

تمر بذهني كل صور الجثث التي رأيتها في حياتي بعد تشريحها، وأرى ذلك الشق الطولي بها والخيط السميك الذي أقفلت به. لطالما أرعبتني فكرة التبرع بالأعضاء هذه.

تستطرد بطريقة آلية:

- هل تريد أن توقع معنا أم ماذا؟

أقول بتردد:

- ليس لدي أدنى مشكلة، عموما لن تحصلوا مني على شيء!

تتظاهر بأنها لم تسمع عبارتي الأخيرة، تشير بيدها إلى طاولة عليها بعض الاستمارات، تجلس وتبدأ في كتابة بياناتي كما هي مدونة في إثبات هويتي. أقرب الكرسي الذي أجلس عليه نحوها قليلا، ثم أستطرد:

- بحسبة عقلية بسيطة سأموت في ارتطام طائرة،، هل تعتقدين أنكم ستستفيدون من جسدي بعض الحادث؟ لابد وأنه سيصير مثل الكفتة!

- وما الذي يجعلك متأكدا هكذا؟

- ببساطة لقد مات جدي في حادث سير ومات أبي في حادث قطار، لابد وأنني سأموت في ارتطام طائرة، خاصة وأنا كثير السفر

- ما تقوله يذكرني بالنشوء والارتقاء

- تقصدين النشوء والارتطام

لا تعجبها مزحتي.

- لماذا أنت واجمة هكذا؟

- لا شأن لك.

- مشكلة عائلية؟

- هل يمكن أن تصمت قليلا؟

تقولها بشكل صارم، ثم تشير إلى بعض أسطر فارغة وتطلب مني أن أكتب الأعضاء التي أود التبرع بها.

- حسنا سأتبرع بكليتي لطفلين صغيرين رأيتهما في وحدة الغسيل الأسبوع الماضي، هل تتخيلين هذا؟ طفلان عمرهما أقل من السادسة ويغسلان؟ أعتقد أنني سأعطي قرنيتي لكريشنا، بائع السجائر الإندونيسي الأعمى الذي يتحسس طريقه كل يوم في وضح النهار، وسأعطي كبدي لجاك مديري الإنجليزي بشرط ألا يشرب المزيد من الخمر؟ أما قلبي فسأعطيه لسارة، الفتاة التي كانت تحبني، هل تعلمين أنها الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه أن يشعرني بالسعادة؟ كانت دائما ما تقول...

- هل يمكن أن أكدر مزاجك وأقطع استرسالك هذا؟ لا يمكنك أن تحدد أسماء في هذه الوثيقة. التبرع بالأعضاء يحتاج إلى تناسق الأنسجة وفصيلة الدم وأشياء أخرى.

- آه، فهمت.

- هل مازلت تريد أن توقع؟

- إن ابتسمتِ فحسب.

تمط شفتيها بابتسامة صفراء، ثم تمسك القلم وتسألني مرة أخرى عن الأعضاء التي أريد التبرع بها.

- سأتبرع بكل أعضائي، ربما حينها فقط أشعر بالفرحة، ربما تضحك أسناني في وجه آخر أكثر ابتساما مني، وربما يجد قلبي مساحة أوسع في صدر أوسع من صدري. أتعرفين؟ لطالما أخبرت الله أنني لا أريد شيئا سوى الفرحة، لكن لحكمة يعلمها فقد أعطاني كل شيء وحرمني مما أريد... كما ترين، الحياة بدون من تحبين...

تقطعني مرة أخرى وتسألني بجدية:

- حسنا سأكتب أنك تريد التبرع بكل أعضائك. هل أنت متأكد من هذا؟

- نعم، يمكنكم أن تأخذوها جميعا، لكنني لن أتبرع بمؤخرتي بالطبع خوفا من أن يساء استعمالها.

لا تمنع نفسها من الضحك، تقول:

- لكن هكذا ستكون مؤخرتك هي الجزء الوحيد الذي لم يفرح

- يمكنها أن تفرح الآن.

أقولها ثم أقوم وأرقص محولا ظهري إليها. تضع يدها على فمها وتضحك ضحكة أعلى. أشعر أنني حصلت على ما أريد، أوقع الوثيقة ثم أرتدي نظارتي الشمسية وأختفي في الزحام.

هناك 7 تعليقات:

Reham Radwan يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
Reham Radwan يقول...

عبقرية.. موجعه.. مبكية .. مضحكة..إذا فانت المبدع صانع هذه الحاله

Reem Al-migbel يقول...

رائعة نهايتها وبدايتها وفي منتصفها ، تُدخل جميع التفاصيل التي تريدها بطريقة خفيفة ، تجمع خليطا من المشاعر بقصة واحدة...
تغيب ثم تعود بقوة

دمتَ بخير
طلبا لا أمرا أرجو منك زيارة مدونتي فرأي الكبار يهمني.

Reem Al-migbel يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
عمرو يقول...

ريهام
متشكر قوي على الكلام الجميل ده

:)


ريم
زيارة مدونتك شيء يشرفني :)

Reem Al-migbel يقول...

شـكــرا عمرو :)

timaa يقول...

(:
ابتسامة كبيرة من القلب ..
أحياناً أتمنى أن أدخل إحدى قصصك ولا أخرج منها ..
فقط لأني أكون سعيدة و أنا وسطها ...
سعيدة حقاً .. لا مجازاً .. أو تصنعاً ..
أو تظاهرا ... سعيدة كأيام صباي عندما كانت الحكايا تسرقني من واقعي .. وتأخذني لعالم الفرح ..
قليل من السعادة أسرقها من بين سطورك ..
شكرا لك ياعمرو .. لأنك تكتب بهكذا روح ..
وهكذا حرف ... وهكذا إحساس ..
شكرا لك ..