واحة الغروب
أعرف أن ما أكتبه الآن عن الرواية الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2008 يعد متأخراً جداً لكن تود كل خلية في أن تبين إعجابها بهذا العمل. من لم يقرأ “واحة الغروب” لبهاء طاهر فقد فاته نصف عمره وربما عمره بأكمله, وأنا لا أبالغ.
مع السطور الأولى تكتشف أن بين يديك عملا بالغ التميز. اللغة رائقة وسهلة ومعجزة, تنساب في عقلك وتسلمك المضمون دون أي استغلاق أو لبس. تحكي الرواية قصة محمود الضابط الذي رقص على السلم فلا هو تبع الثوار المصريين ولا هو أصبح من الخونة. هذا هو الصراع الرئيس في الشخصية والذي يقودها إلى حتفها في نهاية الرواية.
ألف صراع يخوضه محمود, بين حبه لكاثرين زوجته وبين حب قديم في قلبه لنعمة السمراء وبين حب أحدث لفيونا أخت زوجته. بين ترقبه للموت وكراهيته, بين وده لأهل الواحات وخوفه منهم, بين قيم زرعت وتأصلت فيه عن الرجولة والوطنية والشهامة وبين ما كانت تصرفاته عليه. هو تصرف كشخص عادي يخاف على حياته. لم يكن مع الثوار وإن ساعدهم لكن حين حانت لحظة الامتحان قال في التحقيقات أن الثوار بغاة. أي ألم يعيشه رجل شريف تنازل عن بعض من مبادئه؟!
“محمود” ضابط مصري تزوج من “كاثرين” الأيرلندية وأسلمت له النظارة القيام بجمع الخراج في أحد الواحات التي قتل كل مأمور خول بذلك فيها. بداية تثير القارئ وتجعله ينتظر متشوقاً.
كاثرين الزوجة تحب العلم وتعشق الآثار والإسكندر. هي لا تبحث عن حياة الإسكندر ولكن عن وفاته. والموت هو أحد أهم شخصيات الرواية. فمحمود مع خوفه من الموت إلا أنه طالما رغب لو مات وانتهى الصراع داخله. أما كاثرين فهي تحيا صراع من نوع آخر. فقد تزوجت قبل محمود “مايكل” الذي كان يحب اختها فاشتعلت في نفسها صراعات لم تهدأ حتى النهاية.
تشرح العلاقة بين كاثرين ومحمود العلاقة بين الغرب الباحث عن العلم, المندفع للتضحية بأي شيء من أجله, وبين الشرق المثقل بهمومه السياسية الباحث عن لقمة العيش والمتعلق بها.
الرواية كلها تسير في ظل حكاية أقدم, حكاية الإسكندر الأكبر المقدوني. فالإسكندر يشترك مع الأبطال في وجود صراع يشق شخصيته نصفين حتى أنه قتل أحب أصدقائه وتخلص من أقرب الناس إليه. قتل الإسكندر هؤلاء الذين طالما زادوا عنه وعن حياته. وتألم كثيرا بعد كل مرة حدث فيها ذلك. وعاش بين الموت والحياة. وشك في ألوهيته, وبدأ يرتاب مما ظنه ثوابت.
لا أعرف حتى كينونة آمون الذي ألوذ به. هل كان رباً أو وهماً؟
وهل كان الكاهن الذي نقل لي الوحي مرشداً يخترق حجب الغيب
أو دجالا يلفق الأكاذيب؟!
كنت اقرأ الرواية وأتنقل بين فصولها المعنونة بأسماء الرواة ثم قلبت الصفحة فاكتشفت وجود فصل باسم الإسكندر, وفوجئت بأنه أحد رواة الرواية. الفكرة عبقرية, أن تجعل الشخصية المؤثرة على جميع الأشخاص والمسيطرة على الأحداث تتكلم. حين وصلت إلى هذا الفصل في الرواية أخذت أخبط كفا بكف وأصرخ “يا خرابي.. الله يخرب عقلك يا بهاء”. لكن التنفيذ لم يكتمل إلى النهاية بهذه الروعة. فالإسكندر لم يتكلم ثانية في الرواية ولو أنه سكت ما غير ذلك في سير الأحداث.
محمود إسكندر آخر يعاني من الصراع بين قيم الشهامة والوطنية وبين الخيانة والتظاهر بالفروسية والتضحية. الغدر والخيانة والبحث عن الحقيقة هم الشاغل الأكبر للبطل. هو ألف إسكندر مثقل بالهموم. حين يتكلم عن ماضيه يواتيك شعور بأنه ماسوشي محب لتعذيب الذات. لكنك لا تملك سوى أن تتعاطف معه وتدخل في دوامة الصراع المتقد داخله.
ويقول الدليل إن الصحراء تغدر لمجرد
عاصفة أتت في غير أوانها!تعال أحدثك أنا كيف تكون الخيانة
طالما تمنى محمود لو أصبح خائنا خالصا أو وطنيا خالصا, هو بين بين لا يفهم نفسه ويحسد الخونة ويحسد الأبطال. تمنى لو أصبح كخائن الإسكندر الذي قال له عبارة هي أبدع ما قرأت في الرواية:
خذنا الآن إلى ساحة الإعدام لنكسب بموتنا
ما كنا نسعى إلى كسبه بموتك.
لا ينحاز الكاتب لأي من الشخصيات فهم يتبادلون دور الراوي فيحكي كل منهم الحياة من منظوره, وتكتشف أن لكل منهم وجهة نظر وأنهم محقون جميعا فيما يفعلون. فكاثرين تحب محمود وتود أن تقترب منه فتصر على السفر معه إلى الواحة وتشغف بالإسكندر ويأكلها طموحها فتسبب الكثير من المشاكل لمحمود ولأهل الواحة الذين اعتقدوا أنها تذهب للمعابد كي تمارس السحر.
الشيخ يحيي رجل عجوز من الزجالة الغربيين صاحب عقل وبصيرة, في نظر قبيلته يفعل الخطأ حين يتكلم مع الوافدين الجدد (محمود وكاثرين) بعد أن فرضت القبائل هناك عليهم العزلة والوحدة. لكننا نجده على حق حين يتكلم فهو يعلم أن ما يخافون منه ليس له وجود. وهم على حق لأنهم خائفون.
الشيخ صابر يحاول تأليب البلد على بعضها وعلى المأمور الجديد ويتعاون مع اليوزباشي صبري الضابط الوصولي تركي الأصل الذي تلصص لحساب النظارة على أخبار محمود. صابر أيضا محق فهو يرى أن الشرقيين قد رأوا الأمرين. وهو يحاول تخليص قبيلته من عذاب الاشتباك الدائم مع الغربيين ويرى أن ذلك يمكن أن يتم إذا تركهم يشتبكون مع المصريين. فأهل الواحات لم يعتبروا أنفسهم مصريين حتى زمن قريب.
الشيخ صابر واليوزباشي صبري يمثلان محور الشر في الرواية, وصبري خائن لذا أحسن الكاتب حين أهمله لحقارة شأنه, فهو الشخصية الوحيدة المؤثرة في الرواية التي لا يخصص لها فصلا تتحدث فيه وتشرح حالها.
الشيخ يحيي وفيونا أخت كاثرين يمثلان الخير. فهما محبوبان من الناس ويعتمد عليهم الكاتب في الكشف المبكر والتنبؤ بما يحتمله مستقبل الشخصيات. فالشيخ يحيي يكشف عن حب البطل للموت وخوفه المختلط بالترقب للنهاية. وفيونا تحكي حكاية حبيبين استمرت قصتهما بعد الموت ولم يستطع ملك ظالم أن يفرق بينهما, بل امتدت أغصان اللبلاب من القبرين تتعانق وتتحدى الملك الذي تعب من قطع اللبلاب وباءت محاولاته بالفشل.
تظل الرواية مدهشة, وغرائبية خاصة فيما يتعلق ب”مليكة” التي أحبت الحياة فماتت ولم تذق حلاوتها. مليكة الجميلة المتفكرة في الكون حولها, زوجها أهلها من رجل عجوز أهانها وضربها وحين فرت منه أرادوا إرجاعها إلا أنه مات. وطبقا لتقاليد الواحة ومعتقداتها تصبح مليكة “غولة” من يراها يطارده الموت والغم والمرض والكوارث, اعتقادر غريب بأن الأرملة تجلب المصائب لأهل الواحة إلا إذا مر عليها أربعين يوما لا تستحم فيها ولا ترى أحدا.
ينبهر القارئ من مجرد التفكير في أن الأرملة حين تمر على النخل يقع, وعلى البيوت تموت البهائم ويمرض البشر, أسطورة أخرى داخل أسطورة أكبر ولغز داخل لغز. مليكة هي بنت أخت الشيخ يحيي وهي الشخصية الوحيدة التي تألمت وأحبت الحياة كما هي. لكنها تموت بعدما خرجت وهي غولة لتلقى كاثرين وتطلب صداقتها. تضربها كاثرين ويضربها محمود ويفضحانها في إشارة واضحة إلى أن الحياة سوء تفاهم كبير.
الصراع الذي يعيشه محمود يظل حتى نهاية الرواية. يقرر محمود أنه لن يسامح نفسه على تخاذله.
إذا لم تسطع أن تسامح نفسك
فكيف تطلب من الآخرين أن يسامحوك؟
ثم يقرر البطل أن الحياة خطأ وأنه الجميع على صواب, فيتجه إلى المعبد الفرعوني الذي بحثت فيه كاثرين عن أثر لنقوش توضح مقبرة الإسكندر ويهدم المعبد على نفسه.
لكن قبل أن يموت البطل بشيء بسيط يحقق لنفسه نصراً هامشيا حين يتحدث مع اليوزباشى صبري ويصارحه بأن “عرابي باشا أشرف من عشرة خديويين مجتمعين” وبذا يحقق البطل انتصارا فرعيا أخيرا لنفسه ويعلن أنه لن يستمر في تخاذله وصراعه.
تضع النهاية القارئ في حيرة بالغة. هل قتل محمود نفسه حتى يلقى فيونا ونعمة السمراء بعد الموت؟ هل قتل نفسه حتى يتخلص من دنس الخيانة التي لم يرتكبها؟ هل هدم المعبد لأنه يريد لهذا البلد أن يفيق. وأن يخرج من ثباته؟ هل هي ثورة جديدة يخوضها البطل تعويضا عما فاته؟ أسئلة تجيبون أنتم عنها.