من التاريخ السري لعمرو السيد
ملحوظة: حتى وقت كتابة هذه السطور لم أتلق نتيجة العينة ولا أعلم يقينا إن كنت قد أصبت بالمرض أم لا، إلا أنني متأكد من أن هذه الأيام كانت بمثابة محنة ومنحة.
إليكم جميعاً, لا تمروا صامتين, قولوا إن ما قرأتموه كان سيئاً, أو كان جيداً, لكن لا تظلوا صامتين, ولا تعبروا هكذا.
عندما صعدت الطائرة من مطار القاهرة، أصبحت المنازل والعمارات تحتنا كمكعبات الميكانو التي تراكم عليها التراب، ثم ابتلعنا السحاب ورأيت أبي وهو يعبر الصالة ويقول جملته التي طالما كرهتها لكنني لم أبد له هذا: "وقد تسبق العرجاء". سمعت صوت والد فتاتي الأولى وهو يقول "ربنا يرزقك بواحدة أحسن من بنتي" وخيل لي أن الطائرة تعود بي إلى ماضيّ الذي حاولت كثيرا الفرار منه.
أبي الراقد في الفراش بعد النتيجة لأنني خذلته ولم أدخل كلية الطب، يرمقني بعين واهنة ويصر على أن ألتحق بكلية التربية، بينما أصر أنا على آداب لغة عربية، أتنازل أمام حزنه وأجعلها آداب لغة إنجليزية ثم بعد أسبوع أنزل على رغبته. لم أر نفسي يوما طبيبا ولا مهندسا ، وإن كنت أعرف تماما أنني أستطيع أن أنجح في أي من المجالين (على الأقل أزعم هذا). بينما كانت التربية بالنسبة لي كابوسا كبيرا فأنا لا أجد فيها علما ولم أقبض فيها على ما يفيد.
تقدم لي مضيفة شقراء الشعر منديلا مبللا كي لا تصاب بشرتي بالجفاف، أمسح به جبهتي وما بدا من ذراعي وأعطيه لأخرى، ثم أغرس جسدي في الكرسي مرة ثانية. أتذكر تلك الأيام التي كنت أرسم فيها جداول زمنية لليوم وللأسبوع وكيف كنت ألوم نفسي كثيرا إن ضاع الوقت. منذ أن بلغت العشرين عاما وأنا خائف من بلوغ سن الثلاثين دون تحقيق نجاح يرضيني، ويعوض أبي عن حزنه.
كانت الكتابة بالنسبة لي متنفسا لحالة من الصراع تغتالني كل يوم، حالة من القلق الوجودي كما يفضل أستاذي محمد عبد المطلب أن يسميها لكنني خلال السنوات الثلاثة الأولى من الكتابة كنت أكتب قصة كل أسبوع ليسمعها رئيس نادي الأدب (وقتها) فيمصمص شفتيه ولا ينبس نحوي بكلمة، كنت أعود إلى المنزل ونار تحترق بداخلي فأكتب قصة أخرى وهكذا. كانت رحلة الكتابة بالنسبة لي إبحارا بلا أمل في الوصول إلى أي شط.
على الرغم من كراهيتي الشديدة للتربية فقد استمريت في دراستي العليا لما يزيد على الثلاث سنوات درست فيها ما لا يقل عن 23 مقرر وبحثت خلالها عن جامعة أسجل فيها الماجستير لكنني لم أوفق في ذلك لا في محافظتي ولا في أقصى جنوب البلاد ولا أقصى شماله.
تركت التدريس على الرغم من أنني اجتهدت كثيرا فيه، كان الجميع يرونني مجنونا وكان الحزن ينسكب كل يوم من عيني أبي فيلهبني ويجعلني أقسو على نفسي أكثر وأكثر. أحببت الترجمة فعملت بها حتى تمكنت منها وقمت بإنشاء شركة لم أوفق فيها بأي شكل وجاء طوفان الثورة ليخسفها ويجعلني أخسر عاما كاملا من عمل مضن.
ربما لن أنسى ذلك الأسبوع الذي ضاع فيه كل شيء، حيث رفضني والدها، ربما لأنني لم أكن ناجحا بما يكفي،أو ربما لأنه خاف على ابنته الناجحة من الارتباط بفاشل مثلي، المهم أنه رفض. وأنا ألملم أوراقي وكتبي من مكتبي تمهيدا لإخلاء المكان وإغلاق الشركة كانت الدموع تنزل مني رغما عني على كل شيء، وكنت أكلم أباها في صمتي وأقول إنه على حق، ساعتها دق جرس الهاتف، كان مشرفي المرتقب يخبرني بأن الجامعة قررت إيقاف التسجيل بها لعام آخر.
من بين كل هذه الأحداث المأساوية ظهرت فتاة ملائكية داوت قلبي ولم تكترث لفشلي ولم يرفضني أبوها، بدأت أعمل بكل ما لدي لتعويض الخسارة المادية التي تسببت فيها الثورة، استلزم هذا عام كامل استطعت خلاله تسجيل الماجستير والانتهاء من الجانب النظري فيه، نجحت في نهاية العام في الحصول على بعثة للولايات المتحدة وانتهيت خلال الفترة نفسها من طباعة وتشر مجموعتي القصصية الثانية وروايتي المترجمة الثانية، ثم قررت التنازل عن البعثة لصالح حياة أفضل في الدوحة وعمل جيد في شركة من أكبر عشر شركات هندسية في العالم.
هبطت الطائرة، وتركتني كي أهرب من نفسي كل يوم بين الأبراج العالية والمباني الشاهقة والجنسيات المختلفة والشوارع التي لا تعرفني. صار لدي أغلب ما حلمت به بين ليلة وضحاها، وظيفة جيدة وراتب كبير وتأمين صحي ساري المفعول في أكثر من 20 دولة وإقامة في بناية فخمة، ومجموعة قصصية أعجب بها الكثيرون وتكتب عنها الصحف، ورسالة ماجستير اكتمل نصفها ورواية مترجمة على وشك الصدور وكتاب آخر مترجم. كنت قد انفصلت عن فتاتي الملائكية قبلها بأيام قليلة وكان الحزن يملأني لكن حين دقت الساعة الثانية عشر صباح يوم الأول من يوليو لعام 2012 شعرت بأنني مجهد للغاية وأنني كنت أجري لعشر سنوات. أتممت في هذه الليلة ثلاثين عاما وخفتت قليلا تلك النار المتقدة بداخلي، كان من الممكن أن تختفي تماما لو أن أبي على قيد الحياة، لو أن والد فتاتي الأولى على قيد الحياة، يا ليت الموتى يشعرون بالأحياء...
كتبها عمرو الساعة 6:43 ص 14 تعليقات