ديسمبر 18، 2011

طعام وابتسامة دافئة

father-and-son

ترك الظرف على الطاولة ثم قال وهو ينصرف إنه ينفذ وصية صديقي المرحوم. تركني ذاهلا حتى أنني لم أنتبه إليه وهو يصفق الباب خلفه ولم أقم معه بما ينبغي من واجب الزيارة.

مددت يدي نحو الظرف دون أن ألمسه, توقفت عضلاتي وعقلي فجأة وكأن كل ما في يحاول أن يستوعب...
- المرحوم؟ صديقي؟

هو ليس صديقي بالتأكيد, كل ما في الامر أننا جلسنا معا ربما مرة أو مرتين على مقهى البورصة, كانت المرة الأولى حين لم يجد لنفسه طاولة فاستأذنني في أن يريح كوبه على طاولتي. كان هذا منذ فترة ليست بالقليلة, تحدثنا بعدها ربما مرة أو مرتين, وتبادلنا تحية المساء في الشارع المؤدي للمقهى مرات عديدة.

ما الذي يمكن أن يتركه لي رجل عجوز يحتضر وأنا في الأساس لا أعرفه؟ بالتأكيد لن يكون ما تركه ذا قيمة, هوعلى الأغلب يريد مساعدة مادية لولده الذي في السجن, أو يريدني أن أزوره.

أفتح الظرف فأقرأ سطرا وحيدا كتبه بيد لابد وأنها كانت ترتعش:

"ممتن لك. أنت الوحيد الذي استمع لهمومي ومشاكلي باهتمام كبير".

أشعر بإحراج كبير من نفسي, في الحقيقة أنا لم أنصت له على الإطلاق, كنت أمثل الاستماع فقط, وكنت أسأله بعض الأسئلة بطريقة آلية بين الحين والآخر حتى لا يظن أنني سرحت بعقلي بعيدا عنه.

أتذكره وهو يقلب تذكرة القطار بين أصابعه في ذلك اليوم, كانت دموعه على خده وهو يخبرني عن رحلة العناء التي يقوم بها إلى الصعيد كي يرى ابنه لدقائق قليلة, زادت حدة بكائه وهو يقول إنهم سجنوه ظلما, ثم انهمك في سرد تفاصيل قضيته بينما كنت أنا أمثل الاستماع فقط. في نهاية حديثه كتب لي رقم هاتفه على ظهر التذكرة رغبة منه في التواصل معي, شكرت الله أنه لم يطلب رقم هاتفي, ابتسمت ثم أسرعت في الانصراف وتحاشيت الجلوس معه بعدها.

كان الظلام يغطي كل المسافات على جانبي الطريق تماما كما يغطي الموت الجانب الأكبر من الحياة. أشعرتني السيارات العجلى المارقة من حولي بقليل من الأنس, كان الجميع يتسابقون للحاق بصلاة العيد في قراهم ومدنهم وكانت رائحة الطعام الذي أعدته أمي نفاذة مسيطرة كسؤالها:

- ما دمت لا تعرف الرجل فلم أنت حزين إلى هذا الحد؟

ما أشعر به ليس حزنا بكل تأكيد, هو شعور بالشفقة فقط, وإن كنت لا أدري هل أشفق على الأب الذي رحل بائسا ووحيداً؟ أم على الابن الذي تنتظره أيام طويلة من الحبس والحزن؟ أم أشفق على نفسي أنا؟ ما أعرفه جيداً أنه لم يعد هناك مكان شاغر بداخلي, فأنا ممتليء بالموتى... أحملهم معي كل يوم للعمل, تثيرهم كلمات وجمل بسيطة من زملائي للخروج من داخلي فينتشرون بين المكاتب والدواليب, يخفون كل ما حولي ويعبثون بملفات الذاكرة فأعيش لحظة فقدانهم مرات ومرات قبل أن يقابلوني صدفة في طريقي للبيت, وقبل أن ينادي علي أبي وأنا داخل إلى سلم العمارة كي أحمل عنه ما اشتراه, وقبل أن يمسح يوسف البقال يده وهو يبتسم ثم يرفعها بالتحية, وقبل أن أقضي وقتا عصيبا أعيدهم فيه جميعا إلى داخلي...

أوقف السيارة عند استراحة على الطريق, أفكر فيما قاله المحامي وهو يترك لي الظرف, أفكر في المرحوم صديقي الذي لم أعرفه, أرشف قهوتي بينما يدور حديث بيني والمحامي في مكتبه... يعطيني تصريح الزيارة ويقول إنني لا ينبغي أن أخبر الابن بأي شيء, أهز رأسي موافقا, ثم أنصرف وبداخلي رغبة غير عادية في إخباره, ليس لأنه سيقلق مع انقطاع أبيه عن زيارته, لكن لكي يدعو له, لكي يحمله بداخله كاملا ونقيا كما أحمل أنا أبي والآخرين ربما يكون هذا هو المعروف الوحيد الذي أفعله لهذا الرجل.

أتخيل الابن خلف القضبان والستائر الحديدية وقت الزيارة, ترى كيف سأخبره؟ هل سأقولها كما جائني خبر أبي حادا وصادما؟

أبوك مات يا محمد.

أبوك توفي.

أبوك... تعيش أنت.

تبدو جميعها جملا صلبة تفتك بأي قلب أحب أم لم يحب. أفكر في تمهيد آخر:

أبوك كان رجلا طيبا

أصمت حين أنتبه إلى أن التمهيد يشتمل على الخبر, تنهب سيارتي الطريق, يختفي المقود وتصمت تكبيرات العيد التي بدأت تخرج من مساجد المدينة, يختفي الطريق نفسه وتنسحب بوادر النور التي كانت قد تسحبت فوق كل شيء, أجد نفسي في زنزانته, متوقعا زيارة العيد التي اعتدتها, وطعاما وابتسامة دافئة, وإطمئنانا إلى أن هناك من يهمه أن أعيش وأن أخرج.

أثبت نظارتي الشمسية وأنا بين الأهالي المنتظرين لموعد الزيارة, أقاوم ذلك الشعور داخلي الذي يدفعني لعدم التعامل مع أي مسجون أو قريب لمسجون, أبتسم حين أراه نسخة شابة من والده:

- أبوك بخيريا محمد كل ما في الأمر أنه قرر أن يلبى نداء الله هذا العام وحلفني أن أزورك بدلا منه.

- ....

- لم يخبرك بأنه سيحج؟

- ....

- ايييه, ربما لأنه لم يتوقع أن يختاروه في القرعة, اتصلوا به في اللحظة الأخيرة وقالوا أنهم وجدوا له مكاناً شاغرا.