أبريل 25، 2010

لا تصالح

اليوم أهداني أحدهم طبقاً من الخوخ, وبابتسامة عريضة أخبرني أنه خوخ إسرائيلي.. نظرت إلى الخوخ الذي تنكر في شكل التفاح في اندهاش, قال إنه يزرع هنا في مصر لكن بذوره تأتي من إسرائيل… عمار يا مصر

الحقيقة أن الفضول أخذني للتجربة, لكنني شعرت وأنا أتذوق المسخ الإسرائيلي بمشاعر مختلطة… كلها سلبية, ليس فقط لأنني لا أصالح, وليس فقط لأن أسرتي الصغيرة تأثرت كثيراً من تبعات الحرب, وليس فقط لأنني أحب هذا البلد ويوجعني حاله, ليس من أجل هذه الأسباب فحسب, ولكن أيضاُ لأن الخوخ البلدي مذاقه أفضل بكثير من الإسرائيلي..

مروا بأعينكم معي على رائعة أمل دنقل.. لا تصالح

لا تصالح!.. أمل دنقل
(1)
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيكَ
ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!

(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!

(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا-
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها -وهي ضاحكةٌ-
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها -ذات يوم- أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!

(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف
واستطبت- الترف

 

(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.."
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام
-كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس..
واروِ أسلافَكَ الراقدين..
إلى أن تردَّ عليك العظام!

(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي -لمن قصدوك- القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!

(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازيًا،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
أو أحوم وراء التخوم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: "انتبه"!
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضعلين..
واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ!
وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ

(8)
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!

(9)
لا تصالحْ
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخْ
والرجال التي ملأتها الشروخْ
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريدْ
وامتطاء العبيدْ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت  سنوات الشموخْ
لا تصالحْ
فليس سوى أن تريدْ
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ
وسواك.. المسوخْ!

(10)
لا تصالحْ
لا تصالحْ
لا تصالحْ

 

أبريل 24، 2010

anxiety%20PTSD

أبريل 23، 2010

نشيج

post-18-30117-TEARS تعود بإناء فيه ماء تضعه على النار, ثم تجري خلف دجاجة من دواجنها.. تنحني في ألم, ترتمي بنصف جسدها مادة يديها نحو الدجاجة, ويرتج بطنها بعنف فتضع يدها تحته.. تهرب الدجاجة منها فتجري سنية خلفها بسرعة أكبر, يرتج بطنها... تتألم...
تصيح الدجاجة في قلق وفزع...
تخرج دماء نافرة من العنق المذبوح فتلتهب ذاكرة سنية, ترتد الكثير من الذكريات المؤلمة وتقف كأشباح أمامها لكنها تزيحها جميعاً وتعود إلى الموقد ثم تضع دجاجتها في الماء المغلي بعد أن تفارقها الروح..
تقف عزة أخت زوجها واضعة يدها عند وسطها, تلوي حنكها وهي تقول "اللي يقول لها جوزها يا عورة" فترد أخته الكبرى وهي تضغط برجلها على يد طلمبة الماء قائلة: "يلعبوا بيها الكورة"..
تضحكان..
تنتف سنية ريش الدجاجة في ألم, بينما تستمع إلى غناء النساء في الخارج وصوت الدفوف. كانت أم علي تغني بحماس كعادتها... تغني كأنها تفعل هذا للمرة الأولى.. وكان صوت النسوة من خلفها عالياً فرحاً مجلجلاً..
تمسح سنية دموعها.. هي لا تحب سليم على أي حال لكنها تتألم لما يحدث ولا تعلم السبب, تتشاغل بما في يدها عن حزنها وعن ألم بطنها الذي أصابها من أثر الركض..
تضع الدجاجة في الماء المغلي مرة أخرى.. لم يتبق أمامها سوى بعض الريش الناعم الداكن القصير, تنتفه بأطراف أظافرها فتتذكر كيف اندفعت النسوة نحوها في ذلك اليوم, وكيف عملن في همة لإزالة شعر جسدها بالحلاوة, وكيف كان صوت أم علي متحمساً بالخارج كالعادة, و كان صوت النسوة مجلجلاً وهن يغنين في فرح نفس الأغاني, بينما ظلت هي صامتة, لم يكن بإمكانها أن تصيح أو ترفض.. أو حتى أن تتألم مع نزع الشعر بالحلاوة.
تستمر في نتف الريش القصير الداكن..
ترى النسوة ينتفن الشعر الزائد من جسدها...
أم علي تغني بالخارج..
الجميع يضحكون في سعادة وهي صامتة..
تُخرج الدجاجة أحشاءها...
تدمع عينا سنية..
تمسح دموعها ثم ما تلبث أن تلاحظ منظراً مبهجاً. كانت الأوزة قد خرجت من عشتها بصحبة صغارها الذين خرجوا من البيض البارحة, وقفت الأوزة عند الماء الملوث بالدماء والمتجمع على الأرض, مالت برأسها إلى الأسفل كي تتفحص الماء بعينها اليمنى, ثم تذوقته بمنقارها قبل أن يقلدها الصغار. تبتسم سنية..
كم تتمنى طفلاً صغيراً, ليس لأن سليم يضربها كلما سقط حملها فقد نفذ تهديده وسيأتي لها غداً بضرة على أي حال, ليس لأن الجميع يعيرونها ويقولون إنها كالأرض البوار وإنما لأن شيئاً ما بصدرها يرغب في احتضان مولود صغير تتلهى به عن كل شيء حولها.. طفل صغير يتشبث بملابسها ويجري خلفها.
"خلصي يا عروسة.. عشان نحنيكي"
تلقي  عزة جملتها في سخرية وتتردد ضحكتها في أرجاء المكان.. تلم سنية رجليها المكشوفتين, وتنهض عابسة فتلكزها عزة بسخرية.. على الفور يبدأ شجار لم يكن في حسبانها, تتقلبان في الماء وعلى دماء الدجاجة, تجري الأوزة في فزع وتهرب بصغارها, تنتفض الدجاجات أيضاً ويتوقف الغناء وضرب الدفوف, تجري النسوة في محاولة لإنهاء المشاجرة...
تدرك سنية أن صحتها لم تعد تحتمل, تتلقى الكثير من الضربات في بطنها وصدرها, وتخرج خصلات من شعرها في يد أخت زوجها قبل أن تمد يدها إلى الحجر الملقى على مدى ذراعها, وتضربها به فوق رأسها بوهن واضح.. تتألم عزة لكنها تقوم ممسكة بجبهتها دون أن تصاب بالكثير من الأذى.تقوم سنية من فورها, وتجري..
تجري.. ليس لأنها تخاف من بطش سليم الذي لابد سيضربها إن وقعت في يده, ليس لأنها ارتكبت جرماً بضرب عزة, كانت تجري فقط دونما تفكير في السبب.. قررت أنها لن تذهب هذه المرة إلى بيت أبيها فهو سيعيدها إلى سليم على أي حال, جال بخاطرها أن تترك القرية بأكملها... تستمر في الركض.. تزرع قدميها في الأرض السمراء النائمة على مد البصر, ويرتج بطنها في ألم.. تتوقف من فرط التعب وتستند على جذع نخلة عند جانب الحقل. يرتفع صدرها ويهبط..
تمر لحظات وهي واقفة وحدها تتأمل الحقول الخالية أمامها إلا من بعض حشائش قصيرة, لثلاثة أعوام كانت تنزل مع سليم لتنزع عن الأرض حشائشها, ثم تعدها كعروس لموسم الزراعة وكانت الأرض تأتي دائماً بالحصاد.. تنظر إلى السماء, تتمنى لو كانت كالتراب يزرع فيأتي بالحصاد ولا يتأخر..
تبكي, لو أنها رزقت بطفل لأصبحت سعيدة... لو أن حملها لا يسقط لما ضربها سليم ولما تزوج عليها وما استطاعت النسوة أن يعيرنها.. يتحول بكاؤها إلى نشيج, تشعر بدوار يتسرب لرأسها, تتعلق بجزع النخلة المهتز, مع الريح المندفع يسقط البلح ويرتعش شعرها.. بينما يتسرب خيط رفيع من الدماء بين قدميها..

أبريل 22، 2010

My mood

reunion__forehead_by_myducksayshowdy

تبعد ولا بانساك

ترجع لي باستناك

فارد إيديا تعالى

الدنيا ما تستاهلش

:)

اسمع الأغنية من هنا

أبريل 20، 2010

مبارك شعب مصر

But_dust____by_christians

كيف تسكت عن شعبك وهو يرقد في التراب؟

وعدك أن تخرج يا رحيم برّه مثل الضياء

ها أنا في الثغر واقفٌ رافعٌ قلبي لك

بالإيمان قلبي مبصرٌ, شعبي ملكاً لك

يا إله الحب والسلطان فلتغر على اسمك

لا يكن في وسط شعبك مذبحاً  لغيرك

من ترنيمة مسيحية

أبريل 19، 2010

دعينا نتمشى قليلاً.. إلى الأبد

41Ho78CsrBL
أهلاً بكم.. أقدم اليوم ترجمتي المتواضعة لقصة كورت فونيجت "دعينا نتمشى قليلاً.. إلى الأبد" أو Long Walk To Forever. القصة من مجموعته "مرحباً في بيت القرود" والتي تتصدر قائمة أمازون لأفضل كتب القصة على مر التاريخ, وأكثرها مبيعاً. كانت أول طباعة لهذه المجموعة في العام 1968, وقد نشرها كورت فونيجت في الصحف قصة قصة, لاعتقاده أن هذه القصص لا تكون مجموعة! يعتبر كورت واحداً من أكثر كتاب القصة القصيرة الأمريكيين تأثيراً في الساحة الأدبية في القرن العشرين.
أترككم الآن مع النص.. يمكنكم أن تنزلوه أيضاً بصيغة Pdf من خلال هذا الرابط. قراءة ممتعة.
دعينا نتمشى قليلاً.. إلى الأبد

كبرا كجارين على حدود أحد المدن وبالقرب من الحقول والغابات والبساتين, وتحت عيون  أجراس جميلة اعتلت برجاً لمدرسة للمكفوفين. هم الآن في العشرين من عمرهما ولم يريا بعضهما الآخر منذ عام تقريباً. كان دفء مريح لطيف يسود علاقتهما, لكن لم يكن بينهما كلام المحبين.
كان اسمه نيوت.. وكان اسمها كاثرين. مع بداية الظهيرة, طرق نيوت على الباب الأمامي لبيت كاثرين. جاءت إلى الباب وهي تحمل مجلة براقة كثيرة الورق كانت تقرأ فيها. كانت المجلة موجهة بالكامل للعرائس. قالت وهي مندهشة لرؤيته:
-    "نيوت!"
قال:
-    "هل يمكن أن نتمشى قليلاً ؟
كان نيوت شخصاً خجولاً حتى مع كاثرين. كان يخفي حيرته بأن يتحدث دون أن يمرر الكلام على مشاعره وكأن ما يهمه بالفعل لا علاقة له بما يتحدث به.. يتحدث كما لو كان وسيطًاً سرياً, وسيط سري يتوقف كثيراً بين مآرب جميلة وقصية وخبيثة بينما يبلّغ رسالته. كانت هذه طريقة نيوت في الحديث على الدوام, حتى في الأمور التي كانت تهمه بشدة.
تساءلت كاثرين:
-    نتمشى؟!
أجاب نيوت:
-    نحرك أرجلنا.. بين الأشجار, فوق الجسور..
-     لم يكن لدي أدنى فكرة أنك هنا في المدينة.
-    لقد أتيت للتو.
-    يبدو لي أنك لا تزال في الجيش.
-    بقي لي سبع أشهر أخرى في خدمتي.
كان نيوت عريفاً في سلاح المشاة.. بدا زيه مجعداً, وحذاؤه أغبراً. كان من الواضح أنه يحتاج لحلاقة ذقنه.. مد يده لالتقاط المجلة.
-    دعينا نرى هذه المجلة الجميلة.
أعطتها له:
-    إنني سأتزوج يا نيوت.
-    أنا أعرف.. دعينا نتمشى قليلاً.
-    أنا مشغولة بشدة يا نيوت. الزفاف بعد أسبوع واحد.
-    إذا ذهبنا للتمشية فإن هذا سيجعلك مشرقة.. عروس مشرقة.
قلّب أوراق المجلة:
-    عروس مشرقة مثل هذه, وهذه, وهذه. (قالها بينما يشير إلى العرائس).
تورد خدي كاثرين وهي تفكر في العرائس المشرقات.
-    سيكون هذا هدية لهنري ستيوارت تشيسنز إذا ما أخذتك للتمشية. سأعطيه عروس متوردة الخدين.
قالت:
-    أنت تعرف اسمه؟
قال:
-    راسلتني أمي. هل هو من بيتسبرج؟
-    نعم. حين ستراه ستحبه.
-    ربما.
-    هل.. هل ستستطيع أن تأتي للزفاف يا نيوت؟
-    أشك في هذا.
-    إجازتك ليست طويلة بما يكفي؟
-    إجازة؟ أنا لست في إجازة.
كان نيوت يتفحص إعلاناً من صفحتين لمشغولات فضية..
قالت:
-    ماذا؟
-    أنا الآن ما يطلقون عليه متهرب من أداء الواجب.
-    لا تقل ذلك يا نيوت!
-    هذه هي الحقيقة بكل تأكيد.. (قالها بينما كان ينظر في المجلة..)
-    لم يا نيوت؟
-    كان علي أن أختار نقش الفضة المناسب لك.
بدأ يقرأ أسماء النقوش الفضية من المجلة.
-    أمبارل؟ هيثر؟ ليجيند؟ رامبلر روز؟
رفع بصره إليها وابتسم:
-    أخطط لأن أهديك أنت وزوجك ملعقة.
-    نيوت.. نيوت, أخبرني..
-    أريد أن أتمشى معك.
عصرت يديها في ألم..
-    نيوت.. أنت تكذب علي بشأن هروبك من الجيش.
قلّد نيوت صوت سارينة الشرطة بصوت خفيض, ورفع حاجبيه.
قالت:
-    أين.. من أين هربت؟
-    من معسكر فورت براج.
-    نورث كارولينا؟
-    هذا صحيح. بالقرب من فايتفيل.. حيث تعلمت سكارليت أوهارا.
-    كيف جئت إلى هنا؟
رفع إبهامه, وأشار به كما لو كان يشير إلى سيارة كي تقف على الطريق السريع:
-    سافرتُ هكذا ليومين.
-    هل تعرف أمك؟
-    لم آت لرؤية أمي.
-    من جئت لتراه إذاً؟
-    أنتِ.
-    لماذا أنا؟
-    لأنني أحبك. هل يمكننا أن نتمشى الآن؟ نحرك أرجلنا بين الأشجار وفوق الجسور.."
بدءا في المشي في غابة أرضها بنية بلون الأرواق المتساقطة. كانت كاثرين غاضبة ومنزعجة وكانت على وشك البكاء. قالت:
-    نيوت, هذا جنون مطلق.
-    كيف هذا؟
-    هذا توقيت جنوني لتخبرني فيه بأنك تحبني. لم تتكلم بهذه الطريقة من قبل.
توقفت عن المشي.
-    دعينا نستمر في التمشية.
-    لا, لن نتقدم خطوة أكثر بعد هذا. لم يكن يتوجب علي أن آت معك على الإطلاق"
-    لكنك فعلتِ.
-    كي أخرجك من المنزل. إذا ما خرج أحدهم وسمعك وأنت تتكلم معي بهذه الطريقة قبل أسبوع من زفافي.."
-    ماذا سيظن؟
-    سيظن أنك مجنون.
-    لماذا؟
أخذت كاثرين نفساً عميقاً, ثم قالت:
-    دعني أخبرك أنني ممتنة جداً لهذا الفعل المجنون الذي تجشمته. لا أستطيع أن أصدق أنك هربت بالفعل, لكن ربما تكون كذلك. لا أستطيع أن أصدق أنك تحبني بالفعل, لكن ربما أنت تحبني.. لكن.."
-    أنا أحبك.
-    حسناً أنا ممتنة لذلك, وأنا مغرمة بك كصديق يا نيوت, مغرمة جداً, لكن التوقيت غير مناسب على الإطلاق
خطت مبتعدة عنه:
-    إنك حتى لم تقبلني مطلقاً
أخفت وجهها وراء يديها..
-    لا أعني أنك ينبغي أن تفعل هذا الآن. أنا أعني فقط أن ما تقوله لم يكن متوقعاً. ليس لدي أدنى فكرة عن الطريقة التي ينبغي أن أرد بها عليك.
-    دعينا نتمشى قليلاً, نقضي وقتاً لطيفاً معاً.
شرعا في المشي مرة أخرى:
-    ماذا توقعت أن يكون رد فعلي؟
-    كيف لي أن أعرف ما أتوقعه وأنا لم أفعل شيئاً  كهذا من قبل؟
-    هل كنت تظن أنني سألقي بنفسي بين ذراعيك؟
-    ربما.
-    آسفة لأنني خيبت أملك.
-    لم يخب أملي. لم أكن أعتمد على أن هذا سيحدث. ما يحدث الآن لطيف جداً. لنتمشى فقط.
توقفت كاثرين مرة أخرى.
-    هل تعرف ما الذي سيحدث بعد هذه التمشية؟
-    لا.
-    سنتصافح.. سنتصافح وننصرف كأصدقاء. هذا ما سيحدث.
أومأ نيوت.
-    حسناً.. تذكريني من وقت لآخر. تذكري كم أحببتك.
انفجرت كاثرين في البكاء رغماً عنها. أعطته ظهرها ونظرت إلى صفوف الأشجار اللامتناهية. قال:
-    ما الذي يعنيه هذا؟
-    غضب! (قالتها وهي تقبض على يديها.)  ليس لك حق في..
-    كان علي أن أتأكد إذا ما كنت تحبينني أم لا.
-    لو كنت أحبك كنت أخبرتك من قبل..
-    هل كنت ستفعلين؟
-    نعم.
قالتها وهي تتحول لتواجهه, بينما كان وجهها أحمر للغاية.
-    كنت ستعرف.
-    كيف؟
-    كنت سترى الحب. النساء لسن ماهرات في إخفائه.
نظر نيوت عن كثب إلى وجه كاثرين. أرعبها أن ما قالته كان صحيحاً, فالمرأة لا تستطيع أن تخفي حبها... في هذه اللحظة كان نيوت يرى حباً صادقاً في وجهها... وقد فعل ما كان عليه أن يفعله...
قبّلها.
عندما أفلت ذراعيه عنها, قالت:
-    لم يكن علي أن أسايرك. أنت شخص سيء يا نيوت.
-    أنا؟
-    لم يكن عليك أن تفعل هذا.
-    ألم تعجبك؟
-    ما الذي تتوقعه.. عاطفة ملتهبة فياضة؟
-    أقول لكِ على الدوام إنني لا أتوقع ما سيحدث.
-    ما سيحدث أننا سنقول وداعاً.
عبس قليلاً ثم قال:
-    حسناً.
-    لست آسفة على أنني قبلتك. كان هذا حلواً. كان ينبغي علينا أن نقبل بعضنا من قبل, لقد كنا قريبين جداً من بعضنا. سأتذكرك دائماً يا نيوت.. حظ سعيد.
-    حظ سعيد لك أيضاً..
ثم قال:
-    ثلاثون يوماً.
-    ماذا؟
-    ثلاثون يوماً في السجن. هذا ما تكلفه لي هذه القبلة.
-    أنا.. أنا آسفة لكنني لم أطلب منك أن تهرب.
-    أنا أعرف.
-    وأنت لا تستحق مكافأة بطل على هذه الفعلة الحمقاء على أي حال.
-    لابد أنه من اللطيف أن يصبح المرء بطلاً.. هل هنري ستيوارت تشيسنز بطل؟
-    ربما سيصبح إذا ما حانت الفرصة.
لاحظت أنهما بدءا يمشيان مرة أخرى, وبدءا ينسيان الوداع اللذان كانا مقدمان عليه.
-    هل تحبينه بالفعل؟
-    بالتأكيد أحبه! لم أكن لأتزوجه لو أنني لا أحبه!
-    ما الذي يجذبك إليه؟
-    بهذه الصراحة! هل تعرف كم أنت مزعج؟ هناك الكثير والكثير من الصفات الحسنة في هنري! نعم وهناك الكثير من الأشياء السيئة أيضاً. لكن هذا ليس شأنك. أنا أحب هنري, وليس علي أن أناقش مميزاته معك!"
-    آسف.
-    حقاً!
قبلها نيوت مرة أخرى. قبلها لأنها كانت تريده أن يقبلها..
أصبحا الآن في بستان كبير.
-    كيف ابتعدنا كثيراً جداً هكذا يا نيوت؟
-    لقد حركنا أرجلنا بين الأشجار وفوق الجسور.
-    الخطوات الوئيدة أقصتنا كثيراً.
رنت الأجراس في برج مدرسة المكفوفين المجاورة... قال نيوت:
-    مدرسة للمكفوفين.
قالت:
-    مدرسة للمكفوفين.
ثم هزت رأسها..
-    ينبغي علي أن أعود.
-    قولي وداعاً.
-    يتم تقبيلي في كل مرة أودعك فيها على ما يبدو.
جلس نيوت على عشب قصير تحت شجرة تفاح.
-    اجلسي.
-    لا.
-    لن ألمسك.
-    لا أصدقك.
جلست تحت شجرة أخرى وأغلقت عينيها.
-    أتحلمين بهنري ستيوارت تشيسنز؟
-    ماذا؟
-    تحلمين بزوجك المستقبلي الرائع..
-    حسناً سأفعل.
أغلقت عينيها بشدة وقلبت صوراً لزوجها القادم..
تثاءب نيوت. كان النحل يطن بين الشجر وقد نامت كاثرين على الأغلب. عندما فتحت عينيها وجدت أنه قد نام بالفعل. بدأ يغط بصوت خفيض. تركته كاثرين ينام لساعة, وبينما كان نائماً شعرت بأنه تعشقه من كل قلبها.
اتجهت ظلال أشجار التفاح نحو الشرق. دق الجرس ثانية وغنى طائر في السماء. من مكان بعيد, جاء صوت محرك سيارة يحاول القيام ثم يفشل, يحاول ويفشل.
مشت كاثرين من تحت شجرتها وجثت على ركبتيها إلى جانب نيوت. قالت:
-    نيوت؟!
-    امم
-    تأخر الوقت.
-    أهلا يا كاثرين.
-    أهلا يا نيوت.
-    أنا أحبك.
-    أنا أعرف.
-    فات الوقت.
-    فات الوقت.
وقف وتمطى بينما قال:
-    كانت تمشية لطيفة للغاية.
-    أعتقد هذا أيضاً.
-    هل يفترق الرفاق هنا؟
-    أين ستذهب؟
-    سأسافر متطفلا وسأسلم نفسي.
-    حظ سعيد.
-    حظ سعيد لك أنتِ أيضاً.. هل تتزوجينني يا كاثرين؟
-    لا
ابتسم وحملق في يدها للحظة ثم مشى بعيداً وبسرعة. شاهدته كاثرين وهو يتضاءل على المدى البعيد للظلال والشجر. كانت تعلم أنه إن توقف ونظر نحوها, إذا ما نادى عليها, فلن يكون لديها خيار.
وقد توقف نيوت بالفعل, ونظر نحوها. ثم نادى عليها..
-    كاثرين..
جرت نحوه ولفت ذراعيها حوله ولم تستطع أن تتحدث.
تأليف: كورت فونيجت             ترجمة: عمرو محمود السيد

أبريل 18، 2010

الاختلافات المتشابهة بين البشر

Visual_Analogy_by_Lillithia هناك دائماً خبرات مسبقة تمكننا من فهم الآخرين. فالإنسان يفهم العالم من خلال عمل بعض التعميمات. على سبيل المثال يرى الطفل الصغير الذي لم يتجاوز سنته الأولى كل شيء له شعر على أنه حيوان واحد, ومن الممكن أن يخاف من الأرنب والقط والفأر ومن فراء أي حيوان فقط لأنه مر بتجربة غير سارة سببها كلب.

ثم حين يكبر قليلاً يبدأ في عمل تصنيفات فرعية, فيرى كل الكلاب على أنها كلاب ينبغي أن يخاف منها, ويقترب قليلاً من الأشياء التي تبدو مختلفة مثل القطط والأرانب.

"البنات.. البنات.. صراصير البلاعات, اضربوهم يا ولاد بالجزم والشرابات"..

هذه الأغنية التي يمكن عكس كلماتها فتقولها البنات تنكيلا بالأولاد تبين كيف يحدث التمييز بين الجنسين منذ نعومة الأظفار.. هذا أحد الأمثلة لتعلم التعميمات, لا لإطلاقها فقط. فمنذ مرحلة مبكرة يتعامل كل جنس مع الآخر على أنه جاء من الفضاء, وبالتالي فهو يحتاج إلى تصنيفه, إلى عمل بعض التعميمات التي تشمله, أو تشمل بعض من المنتمين له.

في البداية يميل كل طرف إلى الانطلاق من تعميم واحد وهو أن الجنس الآخر مختلف تماما عن الجنس الذي يتبعه, ثم يجد أن هذا التعميم عام جداً فيميل إلى عمل تعميمات فرعية, لكن حين يقابله موقف صادم فإنه يرتد إلى مرحلة سابقة, أو ما يطلق عليه فرويد النكوص.. يرتد إلى مرحلة الخوف من الفراء, فيرى القطط والأرانب والفئران على أنها كلاب وكلاب فقط.. حين يحدث هذا يتصل إي تي بالفضاء, فتأتي فتاة لتقول جملة مثل "الرجالة (المخلوقات الفضائية التي لا تتبع جنس البشر) خونة, أندال, خنيق, عيال, لا يعتمد عليهم" أو أي شيء من هذا القبيل. أو تجد رجلاً يقول إن النساء "ما بيفكروش, ما بيحسوش, خاينين".. إلى غير هذا.

هناك اختلافات لاشك كبيرة بين النساء والرجال, لكن هناك أرضية واحدة تجمعهم, صفة مهمة جدا يتناسونها, وهي أنهم بشر..

والبشر ميزهم الله بالاختلاف عن سائر خلقه, وباختلافات شاسعة بينهم في الفكر والدين والشكل والتكوين النفسي, فلا يمكن أن ترى شخصين يشبهان بعضهما تماماً, وبالتالي فإطلاق التعميمات على أهميته له أثر سلبي كبير, وهو أن ترى جميع الأفراد على أنهم فرد واحد وهنا تحدث المشكلة فلا تستطيع التعامل مع العالم, لأن الرسائل التي ستحاول توصيلها ستذهب لعناوين أخرى, ولأفراد ليس لهم علاقة بالتعميمات الموجودة في عقلك.

الإنسان كائن متعدد الأبعاد.. دع القراءة الآن وفكر, هل يعتبرك البعض نذلاً؟ هل يراك البعض قليل القيمة؟ هل ينظرالبعض إليك على أنك عبقري؟ كريم؟ صادق؟ هل يراك أحدهم كذاباً؟ أنت لست أياً من هؤلاء ولا تنطبق صفة عليك انطباقاً تاماً من وجهة النظر الكلية, لأن ما يراه البعض صواباً يراه البعض خطأ, ولأنك تتصرف في المواقف المتشابهة تصرفات مختلفة لأنك من داخلك تتغير, فأنت لست عاملاً ثابتاً, أنت أكثر متغيرات التجربة رفضاً للضبط وأولها في عدم القابلية للثبات... وهذا ما يميزك.. ما يميز البشر.

لا يمكن للشخص أحياناً أن يفهم نفسه, فكيف يمكنه أن يفهم الآخرين؟ وكيف يمكنه أن يخرج تعميمات يطبقها على كل البشر؟ أو على طائفة كبيرة منهم؟

يمكن ذلك من خلال توجيه الذهن إلى البحث عن الاختلافات بين الأشخاص لا عن التشابهات بينهم. لا تبحث عن التعميمات في البداية, ابحث عن الاختلافات, هل هي كثيرة؟ هل تجعلك تفرق بين الأشخاص؟ أم أن وجود الفراء في الأرانب والفئران والقطط يجعلهم كلاباً.. كلاباً فقط؟

أبريل 17، 2010

نزل كوابيس الفتى الطائر.. دلوقتي :)

بعد النجاح الساحق اللي حققته المجموعة, وبعد التوزيع الرهيب اللي وزعته, نقدم لكم كوايس الفتى الطائر في نسختها الإلكترونية… كوابيس الفتى الطائر نزلت في كل المكتبات وحققت أعلى المبيعات, كوابيس الفتى الطائر.. مجموعات عربي….. :)

book
كمان احنا عملنا مجموعة على فيس بوك للكوابيس يا ريت تبقوا تشتركوا فيها.. للاشتراك اضغط هنا

أبريل 15، 2010

لا أمشي على الأسود

Holy_by_Blinck

يرتجف..

يتشبث بملابسه الثقيلة بينما ينتفض جسده كله, وتردد شفتاه بصوت خافت "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"..

أوقع التقرير, وأنظر له في حيرة. تنظر ريم نحوي بابتسامة خافتة..

لم أدر هل تبتسم تعاطفاً معي كطبيب نفسي مبتدئ يواجه حالة ليست بالهينة, أم أن ابتسامتها كانت سخرية:

- أربع حالات في أقل من شهر.

ترد في عدم اكتراث:

- البلد مليانة مجانين..

 

اسم المريض: مجهول.

جهة التحويل: المستشفى العام

تشخيص الطبيب المختص: شيزوفرينيا (أوضاع تخشبية, وهلاوس)

 

الشوارع هنا هادئة, والجميع لا يعرفون الجميع.. في الأحياء الشعبية يمكنك أن تصل بسهولة أكبر لكنك هنا لن تجد من يرشدك فالكل منشغلون بشئونهم..

أوقف أحدهم, يتأمل البطاقة, ينظر إلى الصورة, ثم يلوي شفتيه ويمشي دون أن ينبس بكلمة. أوقف آخر.. نفس الشيء.

مفتاح عليه بعض الصدأ ونصف بطاقة ورقية باهتة.. هذا كل ما وجدته في جيب س4, مما يعني أنه مصاب بالمرض منذ فترة طويلة, وأنه ربما مر بكل شوارع القاهرة قبل أن تصدمه تلك السيارة فينقل للمستشفى العام.

يقول صانع المفاتيح إن هذا مفتاح لقفل شقة, بينما لا تخبرني البطاقة الباهتة بأي شيء سوى كلمات غير واضحة في خانة العنوان أظنها "مصر الجديدة", واسمه الأخير.. "محب".

الأشياء التي سلمتها لنا المستشفى العام لا يوجد بها ما يدل على هويته, غير دفتر صغير أوراقه مقطعة مصفرة, لم يبق منه سوى الصفحات الفارغة وقطعة ورق وحيدة :

يا كنيسة الرب.. قلبي قربانة بيد فتاتي, تبعثرها كل يوم فأبيت ليلتي بلا قلب..

تضحك ريم ساخرة وتقول إنني مجنون. تخبرني بأن الطبيب النفسي مريض بالضرورة, وأن س4 سيلقى مصير من سبقوه وأنني سأحل محله في المستشفى. أنظر نحوها في ضيق, الرجل مثقف, ربما وصل إلى شيء لم نصل إليه, الثلاثة السابقون كانوا مثقفين أيضاً, هذا ما يبدو من كلامهم المفكك, وغير المفهوم, ربما لو وصلت إلى بيته عرفت السبب, ربما قابلت أسرته فأخبرونا, أو ربما وصلنا إلى ما يصيب هؤلاء بنفس الأعراض ونفس المرض.

تقف, تخبرني بإنني سأحتاج إلى تجريب المفتاح في جميع أقفال مصر الجديدة حتى أجد شقة س4 وأن الأمر لا يستحق كل هذا العناء.

أنظر نحوها في اندهاش... ثم أتساءل بلا صوت: ما الذي يستحق العناء إذاً؟

في طريق العودة أشعر بأنني متعب ومحبط, تتردد في عقلي أصوات البوابين وأصحاب المحال والعابرين في الطريق وضحكات السخرية التي تنطلق بين الحين والآخر من فم ريم.

أمشي على حافة الرصيف, أفكر في عدد الأقفال الموجودة في مصر الجديدة, لابد وأن عمري سينتهي قبل أن أنتهي من تجريبها, أطأ بقدمي الحجارة البيضاء وأتخطى السوداء, أتخلص من التفكير في الأقفال بعد الحجارة, ترى أي حجارة الرصيف أكثر, البيضاء أم السوداء؟ أتخلص من التفكير في الحجارة بلمس الأعمدة والسيارات, تقترب ريم من أذني وتصرخ

- مجنووووون

أتوقف عن المشي وعن العد وعن التفكير, أشعر بالغيظ يخرج دماً ساخناً من طبلة أذني, أخرج إصبعي الأوسط لها في منتصف الطريق.

تضحك

- كوبروبراكسيا.

أنظر نحوها في غيظ.. أمسح يدي من تراب السيارات والأعمدة الذي علق بهما, فتصرخ:

- وسواس قهري.

أسبها.. وأسب الطبيعة التي تؤمن بها..

تصيح:

- كوبرولاليا

تضحك..

أبكي.

****

"انت الباشا.. انت الباشا.. انت الباشا"

لم يحاول س4 أن ينتحر كما فعل الباقون, يكتفي فقط بالسجود أو الجلوس أمام عمود الإنارة في حديقة المستشفى وترديد ترنيمته البسيطة. أو بالوقوف بشكل متخشب على هيئة صليب في العنبر. يحرك رأسه بين الحين والحين كالدراويش, ويخلط بين القرآن وكلمات غريبة لا أفهمها. ينادي دائما باسم واحد, ربما تكون فتاته التي توزع قلبه قرباناً لربها..

على الرغم من كل شيء, أشعر أحيانا بالحقد عليه فهلاوسه البصرية تجعله يرى الألوان كلها لونين, الألوان كلها بيضاء لديه ما عدا الأسود, لابد أن أسوده قليل, لابد أنه أقرب إلى الحقيقة. أما أنا فحائر بين ألوان كثيرة.

تعبر ريم الشارع وقد تغير وجهها..

- صباح الخير يا دكتورة..

ترد في ضيق:

- صباح الخير.

أضحك..

- اكتئاب صباحي

- الاكتئاب لأمثالك

يمكن للمرأة أن ترسم ألف وجه خشبي لأسباب غريبة لا يدركها الرجل, لم تكن مشاعر ريم هي شاغلي الأكبر, فأنا كنت منشغل بعد حجارة الرصيف البيضاء, ثم ملامسة السيارات والأعمدة وعد درجات السلم..

- 189

هل كان يسكن هنا؟ فوق السطوح؟

ربما يفسر هذا جملة "انت الباشا" التي يرددها طول النهار.

تطلب مني المفتاح.. ماذا لو كان أحد بالداخل؟ وما الذي يجعلها متأكدة جداً من أنه كان يسكن هنا؟

- مافيش غيره بالاسم الأخير ده في السجلات.. أشرف توفيق محب.. هنا مخ (تشير إلى رأسها).

أدق على الباب في ريبة, ثم أدير المفتاح, أندهش حين ينفتح الباب لأجد شقة مكونة من غرفتين, شقة عادية جداً, ليس بها أي شيء غريب, لا رسومات على الحوائط, ولا أي شيء من الذي أراه في أفلام الرعب.

ندخل في تردد, لا يوجد الكثير من الأثاث, فقط مكتب وسرير والكثير من الكتب, المئات منها مكومة بجانب مكتبة صغيرة لم تسع سوى القليل. أوراق مقطعة لقطع صغيرة وملقاة في كل مكان, تنحني ريم لتلتقط بعض الورق, تنظر نحوي وهي تحس بالظفر, فأدرك أنها أوراق من دفتره.

أغسل يدي كثيراً رغم أن ريم هي من نظفت المكتب, تجلس إلى جانبي, نجمّع قطع الورق.. لا نصل إلى أي شيء, الكثير من القطع الممزقة أمامنا والاحتمالات لا متناهية, يمر الوقت بنا, ربما ساعات قبل أن تقوم من مكانها, أقوم معها.. تقلب الكتب, تتعجب من أنه كان يقرأ في كل شيء, وأخبرها بأن تخميني كان صحيحاً حين قلت إنه مثقف.

يخرج فأر من بين الكتب فتصاب ريم بالرعب, تنتفض ثم تختبئ في صدري.. أحتضنها بيدي, ننسى ما كنا نبحث عنه, نتحول في لحظة واحدة إلى رجل وامرأة لا يهمهما البحث عن الحقيقة كثيراً, تحتضنني بيديها فأقبل رأسها.. نقف طويلاً هكذا, أستمتع أنا بجسدها اللين..

اقتربي أكثر يا ريم, اقتربي فلن تعاقبك الطبيعة على ما أودعته فيك, اقتربي لربما نصل إلى ما نريد, التصقي بي أكثر كي أريك الانفجار... الانفجار العظيم.

تدفعني بيدها فجأة, ثم تخرج هاربة دون أن تتكلم..

- مجنونة

أضحك..

أقضي الليل بين الأوراق الممزقة, والفئران التي تخرج بين الحين والآخر متعجبة من تواجدي, أتمكن أخيراً من تجميع صفحة واحدة..

بط بلدي..

أوز..

النساء جميعهن طيور منزلية إذا ما قورن بسمية, هذا ما أحسه حين أراها. ربما لم أشعر بالارتياح قليلاً في بادئ الأمر لأنها لم تكن تشبه تلك الفتاة التي رسمتها في ذهني, لكنني سرعان ما رسمت بعيني إحدااثيات خضراء حول خديها المثلثتين وغمازتها التي تحتل منتصف ذقنها.. سرعان ما أصبحت سمية مفهومي عن النساء وعن الجمال. وسرعان ما أصبحت ذنبي الذي أخجل أمام الله منه.

لقاؤنا حرام يا سمية, حديثنا حرام, وأنت لا تريدين الزواج, تقولين إن الحب لا يعني بالضرورة الزواج, وأنا أريد أن أبقى معك. يقول أبو ذر إن الحب ينبغي أن يكون لله ورسوله, فهل أشركت أنا بحبك؟ هل غضب الله مني لأنني أعشقك؟

"لا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك ... فإن العبودية هي كمال الحب والخضوع" وأنا "ذكرتك والرماح نواهل مني"..

أو ربما أنا لا أنساك كي أذكرك يا سمية, ترى من أحب أكثر, أنا أم عنترة؟

 

توقظني ريم..

ألحظ تغيرات كثيرة عليها, فقد عقصت شعرها ولبست رداء واسعاً لم أرها به من قبل. كانت عيونها تلمع كأنها تمنع دموعاً من الانهمار رغما عنها..

أخبرها بما وصلت له, تقرأ ثم تنهض لتجمع ورقة أخرى.. ينقضي النهار قبل أن يتمكن أي منا من تجميع أي شيء, نخرج إلى السطوح, نقف عند السور نراقب السيارات المارقة. الدموع مازالت تقف عند حافة رمشها السفلي, تنظر نحوي:

- أنا آسفة..امبارح كنت خايفة من..

أضحك

- ده مش خوف دي فوبيا..

تستنكر:

- ده أنا؟

أصيح:

- بارانويا..

- من المؤكد انك فاكرني رخيصة دلوقتي..

أهتف:

- ضلالات

- اسكت

أضحك..

تبكي.

أحضنها على الفور, تدخل روحها داخلي, ونذوب كجسد لإنسان واحد بلا نوع.. تخبرني بأنها خائفة, وأنهم هددوها صباح الأمس, وإنها لن تترك البلد فقط لأنها مختلفة, تقول إنها تنتمي إلى هنا, وإنها لن تغادر. أحتضنها بصمت, ننام على البلاط دون أن نكترث لأي شيء, تبدو النجوم كثيرة جدا في الأفق, أشير إلى السماء, أتساءل دون أن أنطق هل يغضب الله مني لأنني بجوارك يا ريم؟ أتمنى لو كنت تؤمنين به فتجيبينني. نحملق في الأفق في صمت, لابد وأن أكثر هذه النجوم انفجرت وبقي ضوءها لطعا مضيئة في السماء, أسألها عن سبب كل هذه الحيرة؟ فتجيب بأنها أيضاً لديها الكثير من الأسئلة وليس لديها إجابات.. نتكلم كثيراً حتى تنام..في الصباح أستيقظ لأجدها وقد ذهبت.

أعود إلى المكتب, أجمع ما تبقى من ورق:

أيتها العذراء المجيدة، لقد اختارتك المشورة الأزلية لتكوني أمّ الكلمة الأزلي المتجسد. أنتِ حافظة النِعم الإلهية والمحامية عن الخطأة. ألتجئ إليك أنا عبدك غير المستحق ، تكرّمي وكوني هاديتي ومشورتي في وادي الدموع هذا. يا عذراء "هذه الآن عظم من عظامى ولحم من لحمى، هذه تدعى امرأة لأنها من إمرء أخذت" لأنها أخذت من ضلع مني, يا عذراء أحبها, والرب رب المحبة, فهل أرتكب بمحبتي خطيئة لأنها مسلمة؟ يا قلب مريم ، مصدر الحب الحقيقي ، املأ قلبي الأناني بالمحبة الإلهية التي بدونها لن أعرف السلام. صلي من أجلي يا عذراء كي أستطيع أن أعيش كل لحظة للحب , للمسيح, وأبعديني عن الخطيئة, أبعديني عن سمية.

ألتقط الهاتف, يأتيني صوت ريم, أهرول على السلم, تدور برأسي ترنيمات س4, ودعواته, وأسئلة كثيرة عن سمية, تصم أذني صرخات ريم وهي تخبرني بأنهم شوهوا وجهها, أجري في الشارع, أرفع رأسي إلى السماء, يا الله, أيها الآب الرب الروح القدس, تباركت يا رب في السماء وفي الأرض, لماذا تتركنا في هذه الحيرة, أتخلص من أفكاري بعد الحجارة البيضاء, أعبر الطريق, أنظر للسماء, أردد "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد".. صوت سيارة.. ونور ساطع يأتي من بعيد..

أبريل 13، 2010

Edlingham_Church_textured_2_by_newcastlemale

يا كنيسة الرب, قلبي قربانة بيد فتاتي,

توزعها كل يوم, فأبيت ليلتي بلا قلب..

أبريل 11، 2010

حكايتان من الواقع

untitled

عم صالح

كنت أقف إلى جوار عم صالح في مكتبته الصغيرة منتظراً الأوراق الخاصة بي والتي يتم تصويرها حين دخل شاب في العشرينات. كان رشيقاً ووسيماً وكان شعره مصففاً بطريقة ما لا أستطيع وصفها, لكنه كان شاباً ناعماً بعض الشيء.

الشاب: لو سمحت فيه printing؟

بدا الاذبهلال في عيني عم صالح, لكنه أجاب بتلقائية: أيوة فيه.

الشاب: بكام الورقة؟

يبتسم صالح ابتسامة ماكرة: بخمسة وعشرين قرش...

يسكت صالح قليلاً ثم حين يبدو على الشاب فهم العبارة والموافقة عليها يقول: لأ

الشاب بانتباه وتعجب واضحين: إيه؟

عم صالح: Twenty five piasters

****

طلال

يحكي طلال أنه يوم المباراة الكبرى كان في الطريق حين رأى الجميع ومعهم أعلاماً يلوحون بها ويهتفون باسم الوطن والمنتخب. كان طلال يتحسر على الجنيهات القليلة التي يقبضها من عمله لكنه حين رأى فرحة الشارع بالمباراة نسي كل شيء وجرى كطفل صغير نحو بائع الأعلام كي يشتري علم مصر..

- اديني علم لو سمحت.

- عشرة جنيه يا أستاذ.

تصمت الهتافات من حول طلال ويتجهم وجهه

- عشرة جنيه؟ ليه؟ هو أنا هاشتري علم انجلترا؟

أبريل 10، 2010

طفل كبير

b749641fd85ee8db7565817ca16b9f1a حينما كنت صغيراً, كنت أعتقد أن الأطفال يخرجون من بطون أمهاتهم بملابسهم, وإلا فمن أين تأتي تلك الحفاضات البيضاء إذا كانت أمي لم تخرج ولم تفارق سريرها؟

حينما كنت صغيراً, كنت أعتقد أن الأدوية تبقى كما هي في بطوننا, وكنت متأكداً من أنني لو فتحت بطني لوجدت كل الكبسولات الملونة مرصوصة في معدتي, أين يمكن أن تذهب وأنا متأكد من أنني وضعتها في فمي ولم أخرجها بأي طريقة؟

حينما كنت صغيراً, كنت أعتقد أنني سأصبح رئيساً للجمهورية.. لم أر وقتها مشكلة في هذا, ولم أخبر به أحداً, ولم أشغل بالي بالنفكير في سبب منطقي لهذه الفكرة.

حينما كنت صغيراً, كنت أرى أشكالاً مخيفة في سقف الحجرة الأبيض, لا أدري لماذا لم أخبر أمي التي كانت تصر على أن أغلق النور قبل أن أنام, أعالج المسألة إلى الآن بالاختباء تحت الغطاء.

حينما كنت صغيراً, كنت أريد أن أشتري حصاناً أضعه في بئر السلم, وقطاً ينام معي, وكتاكيت تجري على سجادة الصالة التي تصر أمي أن نخلع أحذيتنا قبل أن نمشي عليها, لم أر سببا منطقياً لرفض أبي ولم أستطع أن أقنع أمي بأن الكتاكيت لا ترتدي أحذية.

الآن وبعدما صرت طفلا كبيراً, مازلت أرى أن أفكاري ومخاوفي وأحلامي الأولى منطقية.

أبريل 09، 2010

أرانب بشرية

تخيل معي أنك وضعت أرنباً (ذكراً) مع أرنبة (أنثى) في صندوق, ووضعت معهما قليلاً من العلف والبرسيم, في رأيك هل سيعترضا؟ هل سيصبح بينهما خلاف في يوم من الأيام على أي أمر أو مسألة؟ هل سيتوقف أحدهما عن الأكل يوماً لأنه زعلان من الآخر؟ هل سيترك أحدهما الصندوق غضباً من الآخر أو يطلب الطلاق؟ بالطبع لا..
بعض البشر يقتربون من مثال الأرانب هذا. هناك من البشر من يمكنه أن يتزوج أي شخص. في الحقيقة فإن هناك من الذكور من سيجد أن جميع الإناث تناسبه طالما كن من ذلك النوع الذي لا يمانع في أي ذكر. صدقوني لن يحدث بين هذين الأرنبين البشريين أي مشكلة طالما يرزقهما الله بالقليل جدا من البرسيم.
مسألة الزواج بالنسبة للكثيرين مسألة سهلة, فأي شخص يتوفر فيه قدر جيد من الوسامة والمقدرة المادية والوجاهة الاجتماعية يمكنه أن يصبح زوجاً.. وأي آنسة يتوافر لديها حد أدنى من الجمال والتعليم والمستوى الاجتماعي تصبح زوجة مثالية.
لكن حين يرزقك الله بعقل له وظائف أخرى ترقى فوق توجيه أعضاء جسدك لتحقيق غرائزك, حينها فقط ستشعر بالمشكلة, فأنت لن تستطيع أن تتزوج بسهولة, ذلك أن عقلك يضيق النطاق الذي يمكن أن تجد فيه شريكاً مناسباً ويحصرك في فئة واحدة. تعالوا نتخيل أن رجلاً يحب الرسم أراد أن يتزوج لكن زوجته المتوقعة لا تجيد سوى الطبخ والغسيل, هل ستصبح بالنسبة له الشريكة المثلى؟ حين سيتحدث عن لوحاته ستشعر هي أنه مجنون وأنه منغمس في غي عظيم, ربما ستحدثه عن حلة المحشي التي قضت النهار بطوله تلف في أصابعها, لكنها لن تستطيع أن تشاركه جانباً هاماً من حياته. حينها سيحدث بينهما انفصال جزئي, انفصال يجعلهما لا يتحدثان في هذا الجانب تحديداً, ويجعل كل من تستطيع الحديث فيه زوجة أفضل في نظر هذا الزوج.
الحقيقة أن عقولنا تشترك في تصنيفنا, بمعنى أن المال والطبقة الاجتماعية والوضع الاجتماعي والتدين والتعليم أشياء تصنف البشر إلى فئات, وتشترك معها المواهب والتفضيلات والميول والاهتمامات الفكرية والثقافية أو حتى الرياضية. وحتى تصل إلى الشريك الأمثل لابد أن تحصل على من يضاهيك في كل الفئات. فإن وجدت من يناسبك تماماً تنتقل إلى النقطة التالية, وأما إن لم تجده سيكون أمامك أمران, الأول أن تتخلى عن صفة واحدة لتوسع دائرة الاختيار, والثاني أن تتخلى عن الاختيار من الأساس. تخليك عن صفة واحدة سيجلب عليك بعض المتاعب لذا ينبغي عليك أن تحسبها أولاً, وتخليك عن الاختيار سيجلب لك نعيم الوحدة وجحيمها.
من ينتقلون إلى المرحلة التالية قد يصطدمون بأن الشريك المثالي للغاية ينقصه أمر مهم للغاية أيضاً.. إنه القبول.
التلاقي العاطفي أحد أهم المقومات التي يتم الاختيار على أساسها, لكنه يأتي بعد انتهاء العقل من التأكد من أن الشخص مناسب من الأساس. التلاقي العاطفي هو النصف الآخر الأقل أولوية في التفكير للزواج والأكثر أهمية في سني الزواج نفسها. فالعاطفة هي ما تجعل الشريك/الشريكة يرى أن اللقاء الجسدي أمر أقل أهمية, وينظر إليه على أنه وسيلة للاتحاد والتوحد مع الحبيب /الحبيبة لا غاية. العاطفة تجعل اللقاء الجسدي وسيلة للاجتماع بشخص تحبه وبنصف آخر أعز عليك من نصفك الأول. العاطفة هي التي تجعلنا نرتقي فوق المستوى الأول, مستوى الفروق التصنيفية للبشر, وهي التي تجعلنا بشراً وهي التي تجعل الحياة تستحق الحياة, وتجعل للأيام معنى وللزواج قيمة.
لكننا نعيش في مجتمع شرقي لن يسمح لنا دائماً بالتمهل في اتخاذ هذه الخطوة الأهم في حياتنا. وهو يضع بذلك اختيارين أمامنا, الأول أن نتزوج من أرانب وأن نثني أرجلنا ونخفض هاماتنا كي لا نصطدم بالسقف المنخفض للصندوق الضيق, والثاني تعرفونه جيداً.

أبريل 08، 2010

تأملات 2

اللادينيون يقولون إن الكون كله أتى كنتيجة لانفجار عظيم- وهذا أمر منطقي إذا ما وضعنا في الاعتبار حركة التباعد المتزايدة بين الأجسام الفلكية وحالة السباحة التباعدية المستمرة للكون- لكنهم لا يخبرونا ما الذي سبب هذا الانفجار وما الذي كان موجوداً قبل الانفجار وانفجر, ومن أوجد الكتلة التي انفجرت, وما كان وضعها!!
لا يخبرنا اللادينيون عن الطريقة التي خَلق بها هذا الانفجار العظيم كل هذا الجمال على كوكبنا, وكيف وهب للفيلة حدة الذاكرة, وللفهد السرعة, وللإنسان العقل والأطراف الدقيقة المتقنة. هم يعملون هذه الأيام على إثبات حدوث الانفجار العظيم باقتناع منهم أنه إن ثبت فلن يكون هناك داع للأديان.

الأديان أيضاً أمرها محير.. فالمتأمل فيها سيجد أن أغلبها يعتمد على أسس ومبادئ بديهية, فهي تدعو إلى نبذ السيء والالتزام بالفعل الحسن الجيد. أغلب الأديان تدعو إلى عبادة الله (على اختلاف مفهومه) واجتناب الكذب والسرقة والزنا والقبيح من الفعل. أغلب الأنبياء قضوا فترة تأمل وانفراد وانعزال عن العالم ثم عادوا إليه بمثل وقيم ورسالة. حتى زرادشت الذي ظهر في إيران قبل الإسلام انفرد بنفسه في الجبال وخرج على الناس بمبادئ ثلاثة بسيطة: "تصرف بشكل حسن, تحدث بشكل حسن, اسلك سلوكاً حسناً". فجعلوه نبياً ومازال أتباعه من الأكراد يتبعون شريعته إلى الآن.

هذا التشابه بين الأديان جعل البعض يتبع خليطاً منها, أو يقول إنه ينتسب إليها جميعاً مثل ابن عربي الذي قال:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة ....... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ....... والواح توراة ومصحف قرآن
والحقيقة أن حال الإنسان على الكوكب يدعو للرثاء والشفقة. فالإنسان مخلوق ضعيف ليس له تاريخ يذكر على سطح البسيطة. فبينما كنت التماسيح ترتع في الأرض منذ خمسة ملايين سنة, كان الإنسان لا شيء (عمر الإنسان على كوكب الأرض لا يتعدى بضع آلاف من السنين!!) وبينما يشيد الإنسان ناطحات للسحاب, فما يبنيه لا يساوي شيئا إذا ما قورن بحجم الكون. حال الإنسان يدعو للشفقة لأنه يعتقد أنه أصبح متحكماً فيما حوله, وأنه أصبح سيداً بينما هو في الحقيقة عابر سبيل يمر في صمت واستكانة.

يولد كل منا وله ديانة. فأنا ولدت مسلماً, لكن طفلاً في الهند ولد هندوسياً, وأنا تعلمت القرآن على يد أبي, وتعلم طفل آخر التوراة على يد أبيه, وبنت هذه الأنواع المختلفة من التربية جدراً وحجباً جعلتنا لا نتساءل إن كنا مؤمنين حقاً أم لا. أليس الشك جزءاً من الإيمان؟ ألا ينبغي للفرد أن يتوقف عند مرحلة من حياته ويعيد التفكير في الثوابت التي تعلمها من أسرته؟ القرآن نفسه أعاب على عبدة الأصنام فقال " قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا, أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا .يهتدون"

اللادينيون لا يجيبون عن أي شيء, أعتقد أن أغلبهم أتعبته القيود التي يفرضها الدين, فهم يرغبون في أن يتركوا العنان لنزواتهم وشهواتهم دون أن يعكر صفوهم وجود بعث وحياة آخرة. أما الدينيون فقد أراحوا عقولهم وسلموا بأنها أقل من أن تعرف خالقها أو تهتدي إليه سوى من خلال ما يرد إليهم وما تربوا عليه. ينظر الفريق الأول للثاني على أنهم مضحوك عليهم (ويسخرون من مقدساتنا بشكل مهين), أما الفريق الثاني فينظر إلى الأول على أنه ضال لم يهتد, وأنه يستحق النبذ وربما الموت.

لكن لماذا يتركنا الله في كل هذه الحيرة؟

أبريل 06، 2010

من التاريخ السري لعمرو السيد

في السنة الثانية من دراستي الجامعية طلبت من أبي الموظف البسيط أن يشتري لي جهاز كمبيوتر كانت تكلفته 3500 جنيه تقريباً, كان هذا المبلغ كافياً لشراء شبكة محترمة لأي عروس في قريتنا فقد كان جرام الذهب لا يزيد عن 27 جنيهاً, كما كان المبلغ كافياً لشراء سيارة (على ما أذكر) فيات مستعملة. فوجئ أبي بالمبلغ المطلوب لكنه لم يتردد في شراء الجهاز لي.

في الأسبوع الأول من شراء أول جهاز حاسب آلي في أسرتنا قامت مشكلة كبيرة بيني وبين أبي الذي دخل إلى الغرفة فوجدني أشاهد كليب لشاكيرا. كانت الأخيرة ترقص وتغني كعادتها على الشاشة وأحس أبي أنه أجرم في حقي وأنه اشترى لي الفساد, واشترى لنفسه الغيظ والضجر. الغريب أنني لم أكن منذ اللحظة الأولى أنظر للجهاز على أنه وسيلة لاستعراض الصور ومشاهدة الكليبات والأفلام والاستماع الأغاني كما يفعل الكثيرون!!

في الأسبوع الثالث من شرائي للكمبيوتر أرسلت لأحمد الشمسي خلفية زرقاء لامعة محفور عليها اسمي بينما يتوسط هذه الخلفية اسمي أيضاً مكتوب بأحرف كبيرة من ذهب. كانت آخر معلومات الشمسي عن الفوتوشوب هو أنه برنامج تعامل مع الصور, وكان اكتشافي مذهلا لأفراد أسرته ومخزيا له بينهم.

قررنا أنا والشمسي أن نتعلم الفوتوشوب بالطريقة الصعبة, وأعجبتنا اللعبة, ثم فكرنا ذات يوم أن نصمم صفحة لنا على الإنترنت. كانت محاولات التصميم الأولى مجهدة للغاية لقلة خبرتنا. أذكر أننا أقمنا حفلة شاي بعد أن استطعنا تحويل جهاز الكمبيوتر الخاص بي إلى خادم افتراضي وهو شيء استغرق منا بحثا مكثفا وقراءة موسعة بينما هو بسيط جداً.

في نفس العام أنشأنا موقعين على الإنترنت, الأول باسم داكتووور (موقع طلاب كلية الطب) والثاني أستوووذ (موقع طلاب كلية التربية). كان تصميم المواقع يشبع لدينا الرغبة في الاكتشاف ويعطينا مساحة نكتب فيها الأدب والمقالات. كما قمنا مع دخول مصطفى عادل لفريق التصميم بعمل تغييرات أساسية على الموقعين من حيث التصميم وقمنا بإنشاء منتدى لطلاب كلية الطب.

كنا نطلق على البيت الذي يتم التصميم فيه "السيرفر", وكان السيرفر يقاس بما يقدمه من خدمات وإمكانيات وأطعمة.
كانت مثل هذه الأنشطة هي حديث الطلاب في الجامعة على الرغم من أن الإنترنت لم يكن متاحاً جدا وقتها. وكان البعض يقول الجملة الشهيرة حين نحدثه عن أي من الموقعين: أنا كمان عندي موقع اكتب عندك أحمد سامي آت هوتميل دوت كوم. ههههههههه

كانت خبرة أحمد الكبيرة بالحاسب خير معين لنا خاصة في الأمور التي تتعلق بلغة البيسيك المرئي وقواعد البيانات, أما مصطفى فكان لديه قدرة حسابية مهولة, وإصرار على متابعة الفكرة إلى النهاية, كنا نعتمد عليه في تصميم الجداول التي يصعب التعامل معها وكان دائماً ما ينتهي من المهمة بنجاح. أما العبد لله فقد كانت خبرته في الفهلوة واللمسات النهائية :)

في يوم من الأيام, عرضت علينا جمعية طلابية أن نقوم بتصميم مجلة لها, ولم نكن نعرف أي شيء عن تصميم المطبوعات , لكننا تعلمنا أن أي شيء يمكن تعلمه بالطريقة الصعبة (طريقة المحاولة والخطأ) فقمنا بتصميم أول عدد من المجلة على برنامج مايكروسوفت ورد 2003, وكانت المشكلة الكبيرة التي واجهتنا هي الصور التي لابد أن تكون عالية الجودة والنقاء وملفتة للعين. كنا نضطر إلى شراء أقراص مرنة نذهب بها إلى أقرب مركز إنترنت (لم يكن بمقدور أي منا دفع تكاليف وصلة إنترنت بالمنزل) ثم قضاء ساعات على جهاز واحد أو جهازين على أقصى تقدير والخروج بمجموعة من الصور لا يستطيع القرص تحملها, ثم العودة إلى منزل أحمد أو منزلي لإتمام التصميم. كان البحث عن الصور عذاباً لا يضاهيه عذاب لكننا كنا نستمتع برفقة بعضنا.

مع خروج العدد الأول إلى النور قررنا أن نخوض التجربة مرة أخرى, أصر أحمد أن نصمم العدد الثاني باستخدام برنامج أدوبي إنديزاين, وكنت أنا من أشد المعارضين, لكنه كان على حق, فالبرنامج يتيح ما لا يتيحه ورد ولا عشرة من أمثاله. العجيب أننا رغم تخرجنا من الجامعة نصر على تصميم المجلة كل عام.

كان أبي يتعجب كثيرا من اجتماعنا كل يوم لمدد تصل إلى 12 ساعة يوميا وتحلقنا أمام جهاز الكمبيوتر, بل كان يشك في سلوكي. لكنه يوم أمسك العدد الأول من المجلة في يده كان فخوراً بنا, وتصادف أن كتبت أنا كلمة عميد كلية الطب لتنشر في المجلة لأن الرجل كان مشغولاً, وعندما قابله أبي قال له: "انت عارف المقال اللي في المجلة؟ المقال اللي انت كاتبه؟ ابني هو اللي كاتبهولك" هههههههههه.
لتنزيل آخر عددين من المجلة اضغط هنا

عدد 2009
عدد 2010

أبريل 04، 2010

مش كل يوم

"مش كل يوم عيد".. هكذا قال لي صديقي وهو يمشي معي بالأمس. لا أعرف لماذا حين قال هذه الجملة شعرت بأنها قدرية للغاية. في الأيام الماضية كنت أحاول أن أضحك بوجعي وعليه, لأنني أعرف أنني لن أتخطاه إلا إذا سخرت منه, كنت أحاول أن أعيش وأن أنظر إلى كل شيء بتفاؤل, ساعدني على هذا الكثير من الأحداث في حياتي التي أفرحتني بالفعل, لكنني حين سمعت جملة صديقي شعرت بأنني سأنكسر ثانية عما قريب, ولم يخب شعوري.

"مش كل يوم عيد".. أنا اليوم أشعر بالحزن, أشعر أنني عشت سنوات كثيرة من عمري, أنا قديم جداً, ربما كنت هنا قبل أن يخلق الإنسان. أشعر أن الجرح أصبح بطول قامتي, فأصبحت جرحاً له أصابع تكتب على اللوحة الآن. لم أعد أستطيع أن أسخر من الجراح لأنني صرت جرحاً لا يعرف كيف يوقف ارتشاح الألم.

أشعر أنني صرت قرطاس لب مسليا للغاية, قرطاس لب يمكن للجميع أن يكسروا حباته تحت أسنانهم بتلذذ واضح, ثم يرمون القشر والقرطاس في الطريق لتركلهم الأحذية. قرطاس لب يعطي كل ما في قلبه ولا يصبح جديراً بالاحترام.

أنا اليوم حزين..